1

5 شخصيات تكشف أسرارها في مسرحية “ميادير”

صراع درامي في رحلة البحث عن حياة كريمة

سامر محمد إسماعيل  

مشهد من المسرحية الإماراتية “ميادير” (خدمة المهرجان)

لم تمض الدقائق العشر الأولى من العرض حتى استدرك جمهور “قصر الثقافة” في الشارقة أنه أمام عمل مسرحي غير تقليدي، سواء من جهة المعالجة الفنية والفكرية للكاتب إسماعيل عبدالله، أم من حيث الرؤية الإخراجية التي حققها الفنان حسن رجب. فمنذ اللحظات الأولى لعرض “فرقة مسرح أم القيوين الوطني”، تضعنا القصة أمام مصير خمس شخصيات متمايزة في سلوكها وتفكيرها وردود أفعالها، وتأخذنا المشادات الكلامية بينها نحو صراع درامي لاهث. خمسة أصدقاء جمعتهم الحياة، وفرقتهم رحلة البحث عن حياة كريمة، ليجدوا أنفسهم منذ اللحظة الأولى في هذه الرحلة في مأزق مشترك، فعلى تباين مواقفهم من الحياة، إلا أن الطيب منهم والشرير أمسيا على متن مركب واحد على شاطئ جزيرة نائية، وقد تعطل زورقهم، وكسرت مجاذيفه، ولم يتبق لهؤلاء سوى استعادة ماضي قصة كل واحد منهم.

بهذا التوتر الدرامي يبدأ أصدقاء العمر بمبارزة كلامية لا تخفت جذوتها حتى تعود وتضطرم من جديد. ووفق كتابة متأنية لا تدع مسافة بين كل واحد منهم، فالجميع على حق، وهذا ما يذكر بسؤال الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844-1900) عن كيفية ولادة التراجيديا عندما يسأل: “متى تقع المأساة؟” ويجيب: “عندما يقتتل طرفان يشعر كل واحد منهما أنه على حق”. فما بالك بخمسة أطراف يشعرون أنهم على حق، وهم بالأصل – وكما سنعرف من حواراتهم التالية – عشرة عمر، وأن لكل شخص منهم مبرراته الدرامية لتسويغ ما لا يمكن تسويغه، لنكون أمام ما يشبه اعترافات بالجملة تطيح البنية التقليدية لوظيفة الكتابة الأدبية، وتنقل النص من كونه كائناً أخرس على الورق إلى عتبة العرض. فنصيب (سعيد سالم) الذي فقد مسكنه وطفله بثقب في عضلة القلب، لن يتوانى عن توجيه إدانته لجفاء رفاق العمر، وخذلانهم له وعدم وقوفهم إلى جانبه في محنته. هو الذي لم يتورع عن حمل رفيقه غالب (حسن رجب) على ظهره عندما كان يخدم في ما كان يسمى بـ “قوات الردع العربي” في لبنان سبعينيات القرن الماضي.

thumbnail_من مسرحية ميادير لفرقة مسرح أم القيوين.jpg

استيحاء التراث الشعبي (خدمة المهرجان)

وهناك عبدالله (خليفة ناصر) الشخص المحافظ التي لن يتأخر عن كشف المستور حول عمله كمدير مالي في أحد المصارف الإسلامية، وكيف ساهم في إبرام صفقات خلبية لتبييض حقائب من الأموال القذرة. أما غالب فكان ضحية نزاهته، وتحمله مسؤولية زوجتي أبيه وعيالهما بعد موته، وكيف مضى العمر بغالب من دون أن يحظى بتكوين أسرته، فاستحال مدمناً على الكحول، سكيراً، ومحض شخصية بوهيمية لا ترى في الحياة سوى هذا الجانب العبثي الساخر منها.

في الطرف المقابل نشاهد كلاً من مطر (إبراهيم إستادي) مدير شركة للتطوير العقاري، والمحامي بدر (سيف عدران) الشخصين اللذين يبدوان لنا وكأنهما العقل المدبر للرحلة الملعونة، وكيف يتفتق حوار كل منهما مع كل من نصيب وغالب وعبدالله، عن فضائح لكبريات الشركات التي سلبت الناس أراضيها، واستبدلتها بأبراج وناطحات سحاب يبدو منها البشر مثل قبائل من النمل، وكيف تدير هذه الأبراج صفقاتها المشبوهة، وهي تدوس أرزاق الناس وآمالهم بحياة كريمة.

thumbnail_مشهد من مسرحية ميادير.jpg

الصراع بين الشخصيات (خدمة المهرجان)

أداء متوازن ومنضبط قدمه ممثلو العرض، وهذا كان واضحاً من التكيف الذي أبرموه مع شخصياتهم المتنافرة في طباعها، المؤتلفة في توجيه الأداء، وجعله حاراً ولاهثاً. يوضح “ميادير” تلك التشابكات بين خيوط صنارات صيد عملاقة لا تكتفي بالروبيان كطعم في ثقلها الحجري للإيقاع بأسماك البحر، بل تسقط إشاراتها بقوة على أسماك بشرية يتم اصطيادها بطعوم مختلفة. إنه ميدار فتاك لا يدع فرصة للضحايا بالإفلات من شهوة الطعم. وما أن تغمز تلك الصنارات الضخمة في أفواه الحالمين حتى تحيلهم إلى عصف مأكول، مردية آلافاً منهم صرعى على شواطئ مهجورة ونائية. بهذا الفهم نعرف عمق ما رمى إليه المؤلف إسماعيل عبدالله في نصه اللافت، وبنائه الدرامي المحكم، ونتطلع مع مخرج العرض حسن رجب إلى سينوغرافيا موازية للحدث، لا تقل عنه مستوى في الانسجام مع الظروف المضادة التي يضع العرض شخصياته في لجتها العمياء، وسديمها المميت.

هكذا قدم كل من محمد الفص (تصميم المناظر المسرحية) مع سالم العسيري (مهندس الإضاءة) مناخاً لونياً موازياً لحبكات التمهيد والمواجهة، ومن ثم حبكة الحل. وذلك بالاعتماد على مجسم لزورق خرب يرسو كجثة هامدة عند شواطئ الجزيرة المهجورة، بينما أكملت شاشة توسطت عمق الخشبة، توالي المناظر البحرية المضاءة بالقمر البدر، ليرافق كل ذلك مؤثرات عدة واكبتها موسيقى المايسترو خالد ناصر، الذي قدم بدوره سياقاً موسيقياً تطورت معه أحداث “الميادير”، وضبطت إيقاعه، وشحذت طاقات ممثليه الخمسة، وصولاً إلى مرثية درامية كانت بمثابة محاكمة علنية لغيلان الفساد. ينتصر العرض لأحلام البسطاء التي ستذعن لواقعها، وتلقى مصيراً مأساوياً بإحراق الزورق الوحيد القادر على إنقاذ أبطال العرض، وإعادتهم إلى كنف أسرهم وأطفالهم.

لكن هذا لم يكن ليتم لولا السيطرة المحكمة للفنان حسن رجب، ومن قبله الكاتب إسماعيل العبدالله اللذين أنجزا مغامرتهما على صعيد الشكل والمضمون في آن واحد، ولم يركنا للسائد والمتداول. فثمة شجاعة اجتماعية في الطرح، وجرأة فنية لم تعقها بعض الهنات التقنية، لاسيما في حال الإظلام في مشهد إحراق المركب، ولا الوضعية الخاطئة لمشهد البحر خلف الممثلين، بينما هم كانوا ينظرون نحو الصالة، فالبحر كان من الأجدى أن يكون في موضع الجمهور، وكان هذا ليزيد من لعبة الإيهام المسرحي. إلا أن الخيار الفني لمخرج العرض آثر الحفاظ على قيم جمالية، فلم تقتصر معادلة المسرح الجوهرية في “ميادير” على ثنائية “الآن وهنا” بل تعدتها عبر شاشة عرض مواد الفيديو إلى ثنائية “الآن وهناك” حيث مثلت مشاهد البحر والقمر البدر وهطول المطر مستويات متعددة لقراءة العرض الذي أنتجته جاهرة بصرخة مدوية عن مآلات الإنسان المعاصر في زمن تعلو الأبراج ويهوي البشر نحو حضيض لا قرار لسقوطه.

التعليقات معطلة.