1

الأزمة الطاحنة في السودان من وجهة نظر أميركية

لا حلول سهلة قصيرة المدى واستقرار البلاد والمنطقة معرضان للخطر

طارق الشامي صحافي متخصص في الشؤون الأميركية والعربية 

على رغم موافقة الطرفين المتحاربين في السودان على وقف إطلاق النار استجابةً لدعوة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بالتنسيق مع السعودية والإمارات، إلا أن القتال تواصل، وتعرضت قافلة دبلوماسية أميركية لإطلاق نار في أعمال العنف المتصاعدة، بينما تشعر الولايات المتحدة والغرب بقلق من استمرار القتال بينما لا يمتلكان سوى القليل من أوراق الضغط، فكيف تنظر واشنطن إلى الأزمة وانعكاساتها على المنطقة ومصالحها داخلها، وهل لديها وسائل أخرى لتغيير الوضع في المستقبل؟

ما تخشاه واشنطن

لم تسفر جهود وزير الخارجية بلينكن عن نجاح ملحوظ حتى الآن مع الجنرالين المتحاربين في السودان، قائد الجيش والحاكم الفعلي للبلاد، عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع، شبه العسكرية، محمد حمدان دقلو المعروف باسم “حميدتي”، فقد تواصل إطلاق النار والقتال الذي أدى إلى مقتل وإصابة المئات بعد أن كان من المفترض أن تبدأ هدنة مساء الثلاثاء، وهو ما يزعج بشدة الولايات المتحدة التي تخشى على ما يبدو من أن استمرار القتال لأمد بعيد ستكون له تأثيرات سلبية متعددة داخل السودان وخارجه.
ويعود سبب القلق إلى ما يتوقعه محللون في واشنطن وغيرها من العواصم الغربية إلى صعوبة التوصل إلى هدنة موثوقة حتى يسيطر أحد الطرفين بقوة على مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية الرئيسة في الخرطوم وهو ما يعني أن النزاع المسلح النشط قد يستمر لفترة طويلة بخاصة وأن كل طرف يعتقد أنه الأقوى، فالجيش يتمتع بقوة جوية وخبرة قتالية في المناطق الحضرية، وقد يكون في موقع أفضل على قوات الدعم السريع، وكان رده الأولي على اتفاق وقف إطلاق النار، أن مجموعة قوات الدعم السريع تريد وقف إطلاق النار للتغطية على الهزيمة الساحقة التي تواجهها ومحاولة تأمين المساعدة العسكرية من الدول المجاورة.
لكن قوات الدعم السريع هي أكثر من مجرد ميليشيات، إذ لها جذور طويلة في السودان، وهي مدججة بالسلاح ويُقدَّر عدد أفرادها بحوالى 100 ألف عضو واستطاعت التوسع منذ انبثقت من “الجنجويد”، وهي ميليشيات سعت إلى السيطرة العنيفة على منطقة دارفور خلال الحرب التي استمرت لسنوات بدأت في عام 2003، ولهذا تبدو حتى الآن غير واثقة بالقوات المسلحة السودانية التي اتهمتها بخرق اتفاق وقف إطلاق النار وأنه من المهم أن تعلن للمجتمع الدولي أن “القوات الانقلابية لا عهد لها” على حد قولها.

صراع وجودي

لكن القتال الذي اندلع منذ السبت الماضي “يحمل علامات الحرب الأهلية” بحسب ما يشير إيشان ثارور في صحيفة “واشنطن بوست”، فبعد أن كانا جزءاً من المؤسسة العسكرية التي قررت عام 2019 الإطاحة بالرئيس السابق عمر حسن البشير، تعاون البرهان وحميدتي في إسقاط حكومة هشة بقيادة مدنية في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 وتلاعبا بالمعارضين المدنيين والنشطاء المؤيدين للديمقراطية، وأصبح الاثنان عالقين الآن في صراع داخلي كلاسيكي في بلد مزقته الميليشيات وحركات التمرد لفترة طويلة.
ويرى آلان بوسويل، كبير المحللين لمنطقة القرن الأفريقي في مركز أبحاث مجموعة الأزمات الدولية، أن كلا الجانبين لهما قواعد عسكرية في جميع أنحاء البلاد، وكلاهما يرى هذه المعركة من منظور وجودي، ولهذا فإن استمرار القتال يؤكد أنه صراع خالص على السلطة لمَن سيسيطر على السودان.
ومنذ أن وقع الجنرالين على مسودة اتفاق مدعومة دولياً في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تهدف إلى توفير خريطة طريق لقيادة مدنية، حذر نشطاء سودانيون من أن الصفقة رفعت حميدتي إلى مستوى تهديد مباشر للبرهان من خلال جعلهما متساويين وفاقمت التوترات بالفشل في تحديد جدول زمني قصير لدمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة. ويفسر بعض المراقبين ما يحدث في السودان على أنه معركة بين رجلين يائسين لعدم طردهما من أروقة السلطة عن طريق الانتقال إلى حكومة منتخبة.
وعلى رغم أن حميدتي يقود عشرات الآلاف من القوات، إلا أن البرهان احتفظ بالسيطرة على القوات الجوية، حيث تُظهر صور الأقمار الاصطناعية التي قدمتها شركتا التصوير التجاريتان “بلانيت لابس” و”ماكسار تكنولوجي”، أن حوالى 20 طائرة عسكرية قد تضررت أو دُمرت، وهو جزء صغير نسبياً من إجمالي الطائرات التي يسيطر عليها البرهان.

أخطار خارجية

وعلى رغم أن الفشل في تشكيل الحكومة وتدهور الوضع الاقتصادي والأمني في البلاد، دفع مختلف الأطراف العسكرية والمدنية إلى توقيع اتفاقية إطارية في ديسمبر 2022، حظيت بقبول واسع من قبل المدنيين وأطراف مهمة ومؤثرة من المجتمع الدولي والمجتمعات الإقليمية، إلا أن هناك أسباباً خاصة دفعت البرهان وحميدتي المشرفين على الانتقال السياسي نحو الديمقراطية، إلى رفض هذه العملية والإحجام عن دمج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني، الأمر الذي يبدد أي آمال في استعادة سريعة للحكم المدني، ويخاطر بتدخل العديد من الجهات الفاعلة الخارجية عبر حدود السودان إذا لم تتم السيطرة على الوضع بشكل سريع، تسعى إليه الإدارة الأميركية بقوة.
ويعتبر ماتيوس ناشد من مجلة “نيو لاينز” أن “الحرب قد تجر في النهاية جيران السودان مثل تشاد ومصر وإريتريا وإثيوبيا إلى الصراع، حيث لا يعرف أحد ما إذا كانت قوات الدعم السريع أو الجيش سيهزم الآخر، لكن سعيهما قد يقلب المنطقة رأساً على عقب”.

أيادي روسيا وفاغنر

لكن بقدر ما تراقب الولايات المتحدة دعم مصر وعدد من الدول العربية المؤثرة للبرهان باعتباره رأس الحكم الحالي في السودان، بقدر ما يزعجها تطوير روسيا و”مجموعة فاغنر” علاقات واتصالات واضحة مع قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي التي تسيطر على الجزء الأكبر من مناجم الذهب المربحة في السودان، والتي منحته خطاً مستقلاً واضحاً للتمويل تغذيه تجارة غير مشروعة للخام الذي يتم تهريبه ويقع في أيدي روسيا.
ويخشى الباحثون في واشنطن من توسع نفوذ “فاغنر” في المنطقة، حيث أقامت علاقات مع من خططوا للانقلاب في مالي وبوركينا فاسو، ونفذت عمليات لمكافحة التمرد في جمهورية أفريقيا الوسطى في وقت حذر مسؤولون فرنسيون وأميركيون من نفوذ الكرملين المتزايد في منطقة الساحل المضطربة.
وتنشط “فاغنر” أيضاً في جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث اتهمت جماعات حقوقية أفراد المجموعة الخاصة الروسية بقتل المدنيين في مواقع التعدين، وشاركت أيضاً في الحرب الأهلية الليبية.
وعلاوةً على ذلك، تتطلع قوى إقليمية مختلفة إلى الساحل السوداني المطل على البحر الأحمر، بما في ذلك روسيا، التي لديها اتفاق محتمل لإنشاء قاعدة بحرية في السودان من شأنها أن تمنح موسكو طريقاً إلى المحيط الهندي، كما تأمل الإمارات العربية المتحدة في حماية مصالحها الاستراتيجية طويلة المدى في السودان، ووقعت اتفاقية مع الحكومة السودانية بقيادة البرهان بقيمة 6 مليارات دولار لبناء ميناء جديد على الساحل السوداني المطل على البحر الأحمر لشركتين إماراتيتين، وفقاً لما أشار إليه موجز سياسي من مركز صوفان، وهو مركز أبحاث أمني عالمي.


فرصة للقاهرة

ونقلت “واشنطن بوست” عن المحللة السياسية خلود خير، قولها إنه “في عالم ما بعد حرب أوكرانيا، فإن علاقة حميدتي الأكثر وضوحاً مع فاغنر الروسية، وضعته في مرمى نيران المكائد الدولية عبر منطقة الساحل، وعلى سبيل المثال فإن القاهرة ربما ترى أن احتمالية القضاء على حميدتي تعد بمثابة فرصة جيدة للغاية لا يمكن تفويتها، وأن التوقيت مناسب لذلك مع الاهتمام الغربي بوقف تأثير الدومينو الناجم عن تحول إدارة المستعمرات الفرنسية السابقة لمصلحة موسكو”.
كما أن مصر التي دعمت في السنوات الأخيرة المبادرات الإقليمية السعودية والإماراتية للحل السلمي في السودان، هي من المؤيدين الأكثر وضوحاً للبرهان، حيث تعتبره القاهرة حصناً للاستقرار وحليفاً محتملاً في الخلافات الجيوسياسية مع إثيوبيا حول بناء “سد النهضة” الضخم على نهر النيل، ولهذا فإن التقارير التي تحدثت عن احتجاز قوات حميدتي مجموعة صغيرة من الجنود المصريين في السودان، تعد خطوة تخاطر بتوسيع دائرة الصراع.
ولعل مصر، وهي الدولة العربية الأكثر سكاناً، تشعر بقلق مضاعف مع تحذير بعض المراقبين السياسيين من أن الصراع المطول قد يفيد المتطرفين الإسلاميين والمتمردين المدعومين من روسيا في المنطقة خشية أن يؤدي ذلك إلى تأجيج التشدد في مصر عبر البحر الأحمر، مما يقوض التجارة والنمو الاقتصادي، حيث تسبب القتال السابق داخل السودان في كثير من الأحيان في إلحاق الضرر بالبلدان المجاورة.

الإضرار باستقرار الإقليم

وبصرف النظر عن الدعوة إلى السلام التي قادتها الولايات المتحدة والسعودية والإمارات، فإن جيران السودان كانوا صامتين إلى حد كبير، وإن كانت هذه الدول تعمل على الهواتف خلف الكواليس بشكل منفصل في محاولة لاستعادة الهدوء وتجنب امتداد النيران إليهم، بحسب ما يقول كاميرون هدسون، الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، والذي يحذر من أن “جيران السودان بما في ذلك جنوب السودان وتشاد وليبيا وإثيوبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى يعانون بالفعل من اضطرابات داخل حدودهم، وقد تتزايد هذه التحديات بعد أحداث السودان”.
ويشير وزير النفط السابق بجنوب السودان، حزقيال لوال جاتكوث، إلى أن “عدم الاستقرار في السودان يعني عدم استقرار المنطقة، وقد يكون جنوب السودان، الذي انفصل عن السودان بعد عقود من الحرب الأهلية، أول المتضررين، إذ إن جنوب السودان الغارق في الحرب الأهلية والفساد منذ استقلاله عن السودان في عام 2011، يعتمد على حقول النفط التي توفر 90 في المئة من عائداته، ولا يمكن تصدير النفط إلا عبر خط أنابيب يمر عبر السودان إلى البحر الأحمر، ما يعني أن انتاج النفط والتجارة مع السودان يمكن أن يتضررا كثيراً.
وقد يؤدي تعطيل صادرات النفط إلى تدمير جنوب السودان، حيث أدى التضخم المفرط إلى إفقار الأسر. ونهب الجنود والمسلحون الذين لم يتلقوا رواتب مستودعات المساعدات الخارجية، وقتلوا العاملين في المجال الإنساني.
كذلك تخشى تشاد، التي تشترك في حدود طويلة يسهل اختراقها مع السودان، استمرار القتال، حيث يمكن للمتمردين والميليشيات عبور الصحراء المشتركة بين البلدين، والأهم أن حميدتي تربطه علاقات عميقة بالمنطقة الحدودية، وهو يتحدر من منطقة دارفور في غرب السودان، وله روابط عائلية في تشاد، كما أن ميليشيات قوات الدعم السريع التابعة له انبثقت من قوات “الجنجويد” سيئة السمعة التي اتهمتها الأمم المتحدة بالقيام بعمليات اغتصاب جماعي وحرق القرى والقتل خلال حرب دارفور التي استمرت 20 عاماً.
وعبّر دبلوماسيان غربيان عن اعتقادهما بأن المسؤولين التشاديين يخشون أن تكون لدى حميدتي طموحات إقليمية، وأن هذا يفسر جزئياً مسارعة تشاد إلى إغلاق حدودها مع السودان يوم السبت الماضي في محاولة لمنع امتداد الصراع إليها، ولكن إذا تم دفع قوات حميدتي إلى دارفور، فقد تكون مصدراً للمقاتلين والأسلحة لسنوات أخرى مقبلة، ما قد يؤدي إلى زعزعة استقرار تشاد.
وبالإضافة إلى ذلك، يحذر ماجاك داغوت الباحث في “كينغز كوليدج لندن”، من “فتح مناطق شاسعة أمام الإرهابيين للتحرك في اللحظة التي يصبح فيها السودان مساحة غير خاضعة للحكم”.

نفوذ أميركي غربي ضئيل

على رغم أن أعمال العنف الأخيرة تعد مفاجئة نسبياً، فإن ما يحدث يعد من نواح كثيرة ليس بالأمر غير المعتاد في سياق تاريخ السودان، فلطالما كان الجيش في قلب التحولات السياسية وكانت مقاومة الحكم المدني أكثر من المعتاد منذ الاستقلال عام 1956 حيث عانى السودان من انقلابات أكثر من أي دولة أفريقية أخرى، وشهد 6 انقلابات منذ الاستقلال في أعوام 1958 و1969 و1985 و1989 و2019 و2021.
ومع ذلك قال بلينكن للصحافيين يوم الاثنين إن الناس في السودان يريدون عودة الجيش إلى ثكناته، لكن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين يملكون نفوذاً ضئيلاً في الوقت الحالي، حيث يعاني السودان من العزلة إلى حد كبير منذ انقلاب 2021 ويدين بنحو 56 مليار دولار لمقرضين أجانب، بينما لا تزال هذه الدولة المثقلة بالديون بحاجة ماسة إلى عشرات المليارات من الدولارات لدعم اقتصادها المحتضر، لكن إبرام صفقات أميركية أو غربية تبدو غير مرجحة طالما ظل البرهان وحميدتي في السلطة وفي حالة تقاتل.
ومنذ الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير وخروج السودان (ثالث أكبر دولة في أفريقيا من حيث المساحة)، من قائمة وزارة الخارجية الأميركية للدول الراعية للإرهاب، تضغط قوى داخلية وخارجية على الولايات المتحدة بما فيها المجتمع المدني السوداني والمنظمات الحقوقية الدولية لوقف الدعم للسلطة الحالية ويجادلون بأنه في السياق اليائس الحالي، لا ينبغي دعم أي من الحاكمين العسكريين كشخصية يمكن أن تحقق الاستقرار في السودان.

مستقبل مجهول

وترى واشنطن أن التطورات في السودان خلال الأيام القليلة الماضية ليست جيدة لاستقرار الأمة أو آفاقها لأي انتقال إلى الحكم الديمقراطي، وهو ما يؤكده كريستوفر تونسيل مدير برنامج الدراسات الأفريقية بجامعة واشنطن، الذي يرى أن “كلا الرجلين (البرهان وحميدتي) عائقان أمام أي فرصة لانتقال السودان إلى الديمقراطية المدنية، وحيث تبدو احتمالية إجراء انتخابات حرة ونزيهة في السودان بعيدة، كما لا يبدو أن هناك طريقاً سهلاً لحل قصير المدى. وما يجعل الأمر أكثر صعوبة هو وجود رجلين قويين، كلاهما يقود جيشاً تحت تصرفهما، ويقاتل كل منهما الآخر على السلطة وهما غير مستعدين للتنازل عنها”.
ولهذا، فإن المخاطر خلال الاضطرابات الحالية يمكن أن تتجاوز المستقبل القريب للبرهان وحميدتي وحتى الأمة السودانية، كما يمكن أن يكون استقرار المنطقة في خطر.

التعليقات معطلة.