كتب : فيصل جلول
شاهدنا في الأيام الأولى لانتفاضة القدس، جنوداً إسرائيليين يبطحون فتى فلسطينياً قاصِراً على الأرض ويثبت أحدهم سبطانة بندقية أميركية أم 16 على رقبته فيما الكاميرا تصوِّر المشهد، على مقربة نصف متر أو أقل. ليس هذا الحادث فريداً من نوعه، فقد شاهدنا من قبل عشرات الحوادث التي طالت فلسطينيين من أعمار مختلفة. كانت وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية تنقل تفاصيلها لحظة بلحظة، بل أحياناً تنقل تفاصيل قتل متظاهر كما هي الحال مع الطفل الشهيد محمّد الدرّة خلال انتفاضة الأقصى مطلع هذه الألفية.
لم يسبق أن طرح السؤال حول غاية سلطات الاحتلال من السماح بتصوير هذه اللقطات التي يفترض أنها تُدين المحتل. فهل يريد إدانة نفسه بنفسه؟ وهل هو عاجز عن منع المصوّرين من مواكبة أعمال القمع ؟ أم أن المحتل ديمقراطي إلى حد لا يمكنه منع وسائل الإعلام من إظهار وحشيّته؟ أم أن سبباً أو أسباباً أخرى تقف وراء هذه المشهدية القذرة؟
ما من شك في أن المحتل ليس مازوشياً لكي يتيح صوَراً تُدين قمعه للشبّان الفلسطينيين، فقد منع ويمنع دائماً تصوير المشاهد التي تضعف معنويات الإسرائيليين أو يمكن استخدامها في المحاكم الدولية لإدانة المحتل، وفرض عقوبات عليه وهذا يعني أنه قادر على المنع والسماح بالتصوير وفق حساباته ومصلحته.
أما القول بأن الديمقراطية الإسرائيلية تحول دون المنع فلا قيمة له، لأنها لا تعصم المحتل عن ارتكاب المجازر بحق الفلسطينين والعرب في مناسبات عديدة ومعروفة. أما لجان التحقيق في المجازر المرتكبة فهي من باب التأكيد على “ديمقراطية المحتل” وبالتالي قطع الطريق على محاسبته دولياً وهو لم يُحاسَب أبداً عن المجازر التي ارتكبها وأشهرها صبرا وشاتيلا في بيروت عام 1982.
أحسب أن اندراج هذا النوع من الممارسات في مشهديّة يريد الصهيوني فرضها على مخيّلة الفلسطينيين وتثبيتها في لا وعيهم، وتقوم على حصرهم في صورة الضحية، وحملهم على التصرّف كما يتصرّف الضحايا الذين يستدرِجون العطف. ومن جهة أخرى نقل صورة إلى المجتمع الإسرائيلي تعكس علاقة القوّي بالضعيف والسيّد بالضحية. بعبارة أخرى تأكيد نظرة الإسرائيلي لنفسه بوصفه سيّدا قوّياً يقمع ويصوّر قمعه ويرفع معنويات شعبه بمواجهة عدوّه الوجودي، ناهيك عن الظهور أمام المجتمع الدولي بصفة مَن يقمع ويتيح المُقاضاة والعقاب وفق القوانين وليس بحسب شريعة الغاب.
بالمقابل من الصعب علينا أن نرى صوَراً صهيونية لجنود أذّلاء وهم يبكون خلال حرب العام 2006 ويسارع الصهاينة على الفور إلى اخلاء ساحات المعارك من آثار تدلّ على هزيمتهم، أو انسحابهم أو تراجعهم، فإذا كان التصوير الحر هو جزء لا يتجزّأ من “الديمقراطية” المزعومة لماذا لا تسلّط الأضواء على الجنود الباكين أو الذين يتبوّلون في ملابسهم أو الذين يرتكبون أعمال قتل وحشية أو يسرقون أو يغتصبون … الخ
بعيداً عن هذا الهراء الديمقراطي الإسرائيلي يبدو لي أن المقصود هو تثبيت صورة الضحية في ذهن الفلسطيني وحمله على التصرّف ككل الضحايا الذين لا يلوون على شيء غير التظلّم والشكوى وطلب العدالة، كما أن الصورة نفسها تؤكّد على هرمية الاحتلال بين “سيّد” صهيوني قوّي وفلسطيني ضعيف يتطلّع إلى عدالة ما محلية أو عالمية تنصفه من عسف الاحتلال وظلمه.
لطالما سمعت عبارات من فلسطينيين تحت الاحتلال يقولون ” الصهاينة كلاب بس عندهم قانون يحترمونه بتعرف من خلاله وين الك ووين عليك”.. هذا القول خطير للغاية لأنه يعكس الصورة التي أحاول رسم معالمها للضحية الفلسطينية والتي يسعى المحتل لتثبيتها ، وإذ ينجح فإنه يطيح بمعادلة المُغتصِب الذي لا شرعية له ولا لقوانينه ولا رابط بينه وبين ضحاياه غير الاقتلاع ، فإما أن يثبت وجوده الغريب الذي ينفي وجود أصحاب الأرض أو أن يرحل مع كل مزاعمه.
عندما تقبل بالتقاضي مع المحتل في محكمته أو في محاكم أخرى فأنت تعترف بوجوده وبكونه جديراً بالتحكيم معك بوصفك ضحية وليس صاحب أرض. هذه المعادلة رفضها المقاومون في جنوب لبنان في كل مراحل التفاوض مع المحتل ولم يوقّعوا أوراقاً واتفاقات معه ، وعندما طرح عليهم الأمر كانوا يقولون هم جاؤوا إلى بلادنا وعليهم أن يرحلوا كما جاؤوا بلا قيد أو شرط.
لتبيان خطورة منطق الضحية لابدّ من التذكير بتعريفها في القواميس المُتداوَلة حيث نرى أن الضحية “الشخص أو الجماعة التي تتعرّض لأذى أو لضرر مادي أو أخلاقي أو لسوء معاملة أو لاغتصاب جنسي أو جرّاء كارثة طبيعية … الخ ” و لكل ضحية ” الحق في الذهاب إلى القضاء أو طلب المساعدة من الدولة أو طلب التعويض أو توفير الحماية أو التمتّع بالعطف من طرف المُعتدي “.
وإذا ما أضفنا إلى هذا التعريف وصف “لاجىء” فلسطيني أي إنه لجأ ولم يقتلع من أرضه واستقرّ حيث هو كغيره من ضحايا الكوارث أو المعاملة السيّئة، إذا أضفنا هذا الوصف إلى وصف الضحية ينتفي فعل الاقتلاع ومعادلة الوجود بالوجود ، وبالتالي خوض صراع وجودي بين أن يكون الصهيوني أو أن يكون الفلسطيني على أرض فلسطين. ويحلّ محلّ الفعل المقاوِم، التقاضي أمام المؤسّسات الدولية وطلب الحق من محاكم الدول التي زرعت الكيان الصهيوني في أرض فلسطين باعتبارها أرضاً “محتلة” من طرف المسلمين و”تحرّرت” على يد البريطانيين والفرنسيين في العام 1916 خلال الحرب العالمية الأولى.. ألا تحمل عبارة اللنبي في القدس بعد سقوطها ” ها قد عدنا يا صلاح الدين” ألا تحمل هذا المعنى؟
يربح الفلسطيني ويربح كل شعب محتل معركته ضد الاحتلال بخلع ثياب “اللجوء” و”الضحية” وارتداء ثياب المقاومة والامتناع عن خلعها إلى أن يرحل المحتل هو وديمقراطيته وقضاؤه وأخلاقه وعاداته وتقاليده مرة واحدة وإلى الأبد.
وكل كلام آخر لا قيمة له في هذا المجال ولا يعوّل عليه .