2

سجود عوايص

وقف الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، في عام 1974، على منصّة الجمعية العامة للأمم المتحدة، مخاطباً مندوبي الدول، وممثلي المنظمّات الحقوقية والإنسانية: “بغصن الزيتون في يدي… وببندقية الثائرُ في يدي… فلا تسقطوا الغصن الأخضرُ من يدي”. احتفى العرب والفلسطينيون يومها بخطابه الناري، الذي ثار فيه على اللغة وتشكيلها أولاً، واقتحم محفل النظام الدولي ثانياً، مقدّماً رواية الفلسطيني للعالم وجهاً لوجه، ومن دون وسطاء.

ومنذ ذلك الحين، يتلقّف الفلسطينيون أيَّ خطوةٍ لهم في الأمم المتحدة، باعتبارها تحدّياً وثورةً وانتصاراً، بدءاً من كيانٍ مراقب منحهم حقّ المشاركة الصامتة، إلى دولةٍ مراقبةٍ غير عضو، بميزاتٍ وصلاحياتٍ تعاظمت في اللجان الدولية، ما منحها حقّ مقاضاة محتلها غير مرّة، لكنهم فضّلوا، لأسبابٍ كثيرة، التنازل أو التأجيل.

وخلال أشهر الإبادة، وبدعمٍ قويٍّ من دولٍ عدة، توسّعت القدرة الفلسطينية على رفع الصوت والمطالبة بإنهاء الاحتلال، بالتزامن مع معارك قانونية على جبهاتٍ رديفةٍ خاضتها دولٌ صديقة، ما بين المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، واللجان والمنظمات الإنسانية والحقوقية، لصالح الفلسطيني وحقّه في تقرير المصير، حتى بدا أن زمن حصاد المكاسب الدبلوماسية قد اقترب، وأن الجهد الفلسطيني الرسمي في الأروقة العالمية لتدويل الحقّ الفلسطيني يؤتي ثماراً أكبر بكثير من جهودٍ “غير رسمية” أخرى. ذلك ما كان ظاهراً في مقياس التقدير والظن، لا مقياس الفعل الحقيقي الذي لم يؤتِ من أكله شيئاً، حتى صبيحة يوم اجتماع مجلس الأمن في جلسة طارئة، بطلبٍ إسرائيليٍّ ناب عنها في تقديمه كلٌ من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، للتباحث في شأن 59 أسيراً اسرائيليّاً، ما زالت المقاومة الفلسطينية تشترط وقف حربٍ كاملٍ لإطلاقهم. وجاءت الجلسة في خضم استئنافٍ لحرب الإبادة، مارسته الحكومة الإسرائيلية منقلبةً على اتفاقٍ مضمونٍ بهشاشة الوسطاء وبانحياز الولايات المتحدة، شهدت نموذجاً فجّاً للنظام الدولي الجديد الذي أرسى ملامحه الرئيس الأميركي ترامب، خلال أقل من مائة يومٍ على عهده الجديد.

جاءت الجلسة في خضم صمتٍ عربي وإسلامي، سياسي ودبلوماسي، لم يخرج عن نطاق الهمهمة، ولم يتطور، لا فلسطينيّاً ولا عربيّاً ولا إسلاميّاً، لدعوة مجلس الأمن أو الجمعية العامة إلى التباحث في استئناف الإبادة، والحثّ على وقفها، أو على الأقل ممارسة الدبلوماسية الكاذبة بالمساواة المعتادة بين الجاني والمجنيّ عليه، بالدعوة إلى “ضبط النفس ووقف إطلاق النار بين الجانبين”.

هذه المرّة، كانت الجلسة فجّةً في انحيازها للمجرم، وأسقطت كل “سوء” ظنٍ عن مكاسب دبلوماسية محقّقة في المحفل الأممي، بدءاً من كلمة مساعد الأمين العام للأمم المتحدة لشؤون الشرق الأوسط وآسيا والمحيط الهادئ، خالد الخياري، الذي قدّم إحاطة حول الوضع الإنساني للأسرى الإسرائيليين المتبقّين في غزّة، تتنافس مع الخطاب الإسرائيلي الرسمي في احترافية كذبه وتدليسه. ولم يترك الخياري، وهو الدبلوماسي التونسي الذي مثّل بلاده سفيراً ومندوباً لدى الأمم المتحدة بين عامي 2012 و2018، شاردة أو واردة للتباكي على الأسرى الإسرائيليين، بدءاً من إدانته القاطعة عملية “7 أكتوبر” باعتبارها عملاً إرهابيّاً مروّعاً، مروراً بادّعاء ظروف احتجازٍ غاية في القسوة، تراوح بين التعنيف الجسدي والنفسي، وحتى العنف الجنسي، وانتهاءً بتوصيفاته لحظات إطلاق سراحهم، التي لم يوفّر جهداً في وصفها بأنها مثيرةٌ للقلق الشديد، معتبراً ظهور الأسرى الإسرائيليين أمام حشود الفلسطينيين وتسليم النعوش (حُفظت في صناديق مناسبة)؛ “مراسم مروّعة انتهكت القانون الدولي”.

 

لم يلتفت الخياري، وهو العربي (منا وفينا) إلى تاريخٍ إسرائيلي حافل بالمجازر في دير ياسين وبحر البقر وقانا والحرم الإبراهيمي الشريف، ولم يتطرق، ولو رفعاً للعتب، إلى بياناتٍ أمميةٍ وحقوقية، عن عنفٍ جنسيٍّ وتعذيبٍ وتجويعٍ وانتهاكٍ نفسي وجسدي، يمارسه الاحتلال بحقّ ألوف الفلسطينيين، ولم يلتفت نحو تجارب فلسطينية مؤلمة، مع مواعيد الاحتلال وطقوسه “المقدّسة” في التلاعب بمواعيد الإفراج عن الأسرى، والتنكيل بهم حتى أبواب حافلات الصليب الأحمر الدولي، ولم تطرف عيناه لإحاطةٍ أخرى عن جثامين مئات الفلسطينيين الذين تحتجزهم “إسرائيل”، وتستولي على جلودهم وعظامهم وقرنيّات عيونهم، وجثامين مئات آخرين سلمتهم للصليب الأحمر، في أكياس زرقاء داخل شاحنات قُمامة، دون أسماء ولا تفاصيل ولا علامات.

أخرج الإسرائيليون، في الجلسة نفسها، أحدث أنماط دعايتهم العالمية، أسيرٌ إسرائيليٌّ آخر يمضي بين أروقة المجتمع الدولي مستجدياً “عين العطف” نفسها، التي لم ترمش منذ مائة عامٍ ويزيد. تحدّثت في الجلسة القائمة بأعمال المندوبة الأميركية الدائمة، فلم تزد على “بلاغة” الخياري شيئاً، ثم تحدّث المندوب الروسي محافظاً على دبلوماسيّة “حبّوا بعضكم”، بينما تحدّث المندوب الجزائري بدبلوماسية “الشوكة والسكين”، مراعياً التنقل بين فخاخ الكلمات والمصطلحات. أما كلمة المندوب الفلسطيني، في مجلس الأمن، رياض منصور، فقد كانت أبعد ما يكون عن تمثيل شعبٍ تحت الإبادة، وأقرب ما يمكن لتملق المستأجر الجديد للبيت الأبيض، حين حرص على تقديم التعازي للأسير الإسرائيلي، وتأكيد “الشراكة الإنسانية” بين ألمه وألم فلسطينيين كثيرين فقدوا أفراداً من عائلاتهم، مساوياً “ألمه” بمعاناةٍ، لا يمكن قياسها لمليوني فلسطيني في قطاع غزّة، جرحى ومرضى وجياع، وأسرى لإسرائيل وحصارها وصواريخها، بلا سقفٍ ولا ماء ولا كهرباء ولا حاضر ولا مستقبل.

لم يخرُج خطاب منصور عن مظلّة “احمونا منشان الله احمونا”، ورفض رفع سقف الكلمات بما يضعه تحت طائلة “معاداة إسرائيل”، فأكّد أنه “لا يعمّم ولا يصم مجتمعاً كاملاً ولا ينزع عنه إنسانيّته”، ثم أضاف أنه “لا يبرّر قتل المدنيين بشكلٍ عشوائي”، وخلف إضافته الأخيرة تختنق عشرات الأسئلة، هل يمكن تبرير قتل المدنيين إذاً بصواريخ ذكية عالية الدقة؟ ولماذا هذا الانعطاف الحاد بموازاة التبرّؤ من وصم مجتمعٍ كاملٍ يحتلّ أرضه؟ أتُراه يتبرّأ من شيء آخر؟ وأسهب منصور في الحديث عن حق الفلسطينيين في الحياة، وتطرّق إلى اعتقالهم على يد “إسرائيل” على نطاقٍ واسع، ولتجاهل المجتمع الدولي لأوضاعهم وما يتعرّضون له من ضرب وإهانة وتعذيب، ثم عاد إلى نغمة “احمونا” بالتساؤل، لماذا يتجاهل المجتمع الدولي أوضاع الفلسطينيين، ومتى ستتحمّل “إسرائيل” مسؤولية الجرائم التي ترتكبها ضد الأسرى الفلسطينيين؟ وقبل أن تنتهي الفقرة الأولى من الجلسة المفتوحة، حرصت المندوبة الأميركية على الإجابة عن أسئلة المندوب الفلسطيني، فأكّدت مجدّداً أن الجرائم الإسرائيلية “فردية”، وأن النظام الإسرائيلي سيحاسب مرتكبيها، ثم حملت الفلسطينيين مسؤولية موتهم من جديد.

لمثل هذا الخطاب والجواب، العربي والفلسطيني والدولي، ما عاد بإمكان الفلسطينيين تلقّف نصرٍ لهم أو ثورة في المحافل الدولية والأممية، وما عاد بإمكانهم الركون إلى كرسيٍ هنا أو مقعدٍ هُناك لدولة عربية أو إسلامية، يخفّفون عليه قليلاً حِمل قضيتهم، فلهم في الدبلوماسية الإماراتية لانا نسيبة أسوة لا تقل سوءاً عن خالد الخياري، ومنهم اليوم يخرُج خطابٌ أعرج لا يضاهي في حرقته أماً مكلومة، ولا في فصاحته طفلاً هائماً على رمال غزّة، وأمامهم عهدٌ دولي جديد يحكمه ترامب بعصمةٍ وعصبيةٍ لا تُبقي ولا تذر.

التعليقات معطلة.