في التاريخ السياسي الحديث، لم نشهد صراعًا أعقبه هذا الكم من التهديدات والتصعيدات الإعلامية والعسكرية، دون أن يُفضي إلى حرب شاملة، كما هو الحال بين الولايات المتحدة (ومعها إسرائيل) من جهة، وإيران من جهة أخرى. لعقود، عاشت المنطقة على وقع تهديدات متبادلة، وتصريحات نارية، واستعراضات قوة، دون أن تنفجر الأمور بشكل مباشر، رغم وجود مئات الأسباب والفرص لذلك.
لكن ماذا لو كانت هذه التهديدات هي في حقيقتها جزءًا من لعبة أكبر؟ لعبة تأسست قبل أكثر من أربعة عقود؟
1979: ولادة معادلة محاصرة العرب
عام 1979، لا يُعتبر فقط بداية الثورة الإيرانية، بل هو لحظة ميلاد “معادلة إقليمية” خطيرة أعادت رسم خارطة النفوذ في الشرق الأوسط. تلك المعادلة تأسست على ركيزتين:
إخراج العراق من مركزية القرار العربي لصالح إيران، عبر تحويله لاحقًا إلى ساحة صراع لا دولة.
تعويم الدور الإيراني كقوة وظيفية لضبط التوازن مع العرب، من خلال تصدير الثورة، وتوسيع النفوذ في لبنان وسوريا والعراق واليمن.
خلال هذا المسار، ضُمنت لإسرائيل حدود آمنة، ولأمريكا قواعد استراتيجية، واصبحت الأنظمة العربية بين مطرقة “العدو الإسرائيلي” وسندان “الخطر الإيراني”.
التهديدات: وسيلة الحفاظ على النظام القائم
التهديدات المتواصلة، وإن بدت مرعبة، ليست إلا وسيلة لإبقاء هذه المعادلة حية. فكل تصعيد بين طهران وواشنطن أو تل أبيب، يخدم في الحقيقة:
تأجيل أي انهيار محتمل للمعادلة.
الإبقاء على العرب في موقع الدفاع، لا الفعل.
منع نشوء قوى عربية مركزية جديدة.
الحرب المباشرة، من وجهة نظر كل الأطراف المتورطة في هذه المعادلة، ستكون بمثابة تدمير لأسس النظام الذي بناه الجميع منذ عقود. ذلك لأن أي حرب فعلية قد تنسف التفاهمات العميقة بين طهران وواشنطن وتل أبيب، وتُخرج العرب ـ أخيرًا ـ من دائرة الحصار، سواء من الشرق أو من الغرب.
لماذا لم تحصل الحرب إذن؟
لأن الجميع حريص على عدم تفكيك الخيوط التي حيكت بإتقان منذ 1979. لا أمريكا تريد أن تخسر ورقة “الخطر الإيراني”، ولا إيران مستعدة للتضحية بـ”صورة العدو الأمريكي والإسرائيلي” التي تمنحها شرعية داخلية وخارجية. وإسرائيل تدرك أن استمرار الخطر النووي الإيراني ضروري لبقائها في حالة استنفار دائم، تجلب بها الدعم الغربي، وتُبرر تدخلاتها.
أما العرب، فهم الحلقة الأضعف في هذه المعادلة، وهم المعنيون بالخسارة في كل الحالات، ما لم يُكسر هذا “الستاتيكو” الإقليمي.
اتفاق اللحظة الأخيرة أم انفجار مفاجئ؟
في ظل هذا الفهم، هناك سيناريوهان لا ثالث لهما:
1. اتفاق اللحظة الأخيرة (السيناريو الأرجح)
اتفاق يفضي إلى تهدئة شكلية، تضمن لإيران بعض المكاسب، ولأمريكا تأجيل الانفجار، ولإسرائيل استمرار الضغط مع بقاء الساحة العربية مشلولة.
2. انفجار المعادلة وخروجها عن السيطرة (السيناريو المكلف)
في حال اختُرقت الحسابات أو انقلب أحد اللاعبين على التفاهمات القديمة، قد تنفجر الحرب، لكن خسائرها ستكون باهظة لدرجة أن الكل يخشاها، وليس فقط يتفاداها.
هل يمكن للعرب كسر المعادلة؟… الواقع أقسى من الحلم
الحديث عن إمكانية تحرر العرب من هذه المعادلة يفترض وجود إرادة فاعلة وقدرة على المناورة، وهو أمر تصطدم به الحقيقة الصلبة: الإرادة الدولية التي صاغت معادلة 1979 لا تزال حتى اللحظة هي القوة المحركة الفعلية للمنطقة. وكل من واشنطن وطهران وتل أبيب ما زالوا شركاء في استثمار هذه المعادلة، لا في تدميرها.
العرب، في هذا السياق، لا يملكون مفتاح التغيير، ولا يملكون ترف القرار، لأنهم ببساطة موضوع في هذه اللعبة وليسوا فاعلين فيها. إن كل تحول حقيقي في المنطقة لن ينبع من داخلها، بل من تبدل عالمي في موازين القوى الدولية، وهو ما قد يحصل مستقبلًا بفعل تشكل نظام عالمي جديد بعد صراع الغرب مع روسيا والصين، أو بسبب انهيارات داخلية تُصيب أحد أركان المعادلة.
وحينها فقط، قد يُعاد صياغة الواقع الإقليمي وفق رؤية جديدة ومصالح مختلفة. وحين يتغير الراعي الدولي للمعادلة، يتغير شكلها، وقد تكون تلك اللحظة التاريخية النادرة التي يمكن للعرب ـ إن أحسنوا قراءتها ـ أن يخرجوا فيها من دائرة الحصار التي طُوقت أعناقهم بها منذ عقود.