إن كان لسنة 2024 أن تكون مميّزة على الصعيد السياسيّ فهي لأنّها ستشهد عدداً من الاستحقاقات الانتخابيّة البارزة. مع تزايد بؤر واحتمالات الصراع على المستوى الدوليّ، تزداد بشكل خاصّ أهمّيّة أربعة من هذه الاستحقاقات بما أنّ تأثيراتها قارّيّة وحتى دوليّة. وأولى هذه الانتخابات لا تبعد سوى بضعة أسابيع.
تايوان
ستشهد الجزيرة التي تمثّل عنواناً لخلاف مزمن بين الولايات المتحدة والصين انتخابات عامّة في 13 كانون الثاني (يناير). لن يكون بإمكان الرئيسة الحاليّة لتايوان عن “الحزب الديموقراطيّ التقدّميّ” تساي إنغ وين الترشّح لولاية جديدة بعدما خدمت في منصبها لولايتين متتاليتين منذ سنة 2016. سيكون نائبها ويليام لاي تشينغ ته مرشّح الحزب إلى الانتخابات.
من جهته، رشّح أكبر حزب معارض، الـ”كومينتانغ”، عمدة مدينة نيو تايبيه هو يو إيه للانتخابات. وسيكون مؤسّس “حزب الشعب التايوانيّ” كو ون جه على القوائم الانتخابيّة كمرشّح ثالث. بعبارات مبسّطة، يعدّ “الحزب الديموقراطيّ التقدّميّ أكثر تشدّداً بشكل عامّ تجاه الصين من منافسه التقليديّ الـ”كومينتانغ” و”حزب الشعب التايوانيّ” الذي يركّز على مناهضة “المؤسّسة”. بحسب آخر الاستطلاعات، لدى مرشّح الحزب الحاكم 35.2 نقطة مئويّة من الدعم مقابل 32.1 لمرشّح الـ”كومينتانغ” و19.7 لمرشّح “حزب الشعب التايوانيّ”. وينبغي أيضاً مراقبة ما إذا كان الحزب الحاكم سيستطيع الحكم بسلاسة بعد 2024 بسبب ترجيحات بعدم فوز المنتصر بالسلطة التشريعيّة.
بحسب مراقبين، تفضّل الصين فوز “الكومينتانغ”. حاول الأخير التوصّل إلى اتّفاق مع “حزب الشعب التايوانيّ” لترشيح شخصيّة واحدة، لكن من دون نجاح، فتحوّل الحزبان الآن إلى التنافس على قواعد شعبيّة مشتركة لحسم المركز الثاني. بهذا، يبدو موقع الحزب الحاكم أفضل نسبيّاً، إنّما بشكل ضئيل. إذاً ماذا لو فاز ويليام لاي؟
قال لاي مؤخّراً إنّه لن يصعّد لهجته تجاه الصين وسيلزم الطريق الحذر للرئيسة تساي بعدما وصف نفسه سابقاً بأنّه “عاملٌ براغماتيّ لاستقلال تايوان”. لكنّ مراقبين يشيرون إلى أنّ مستشاري لاي من المتشدّدين كما أنّ الصين لا تنظر أساساً إلى تساي على أنّها معتدلة؛ لهذا السبب، هم يعتقدون أنّ التوتّرات في مضيق تايوان ستستمرّ لأربعة أعوام أخرى. وقد تفرض حصاراً مطوّلاً. استمرار هذه التوتّرات وسط تأكيد الرئيس الصينيّ شي جينبينغ أمام نظيره الأميركيّ جو بايدن مؤخّراً أنّ بلاده ستعيد ضمّ تايوان، بالرغم من أنّها لم تحدّد موعداً لذلك، يعني أنّ المنطقة ستظلّ قابلة للاشتعال في المدى المنظور. والعالم لن يكون بمنأى عن هذه التداعيات.
روسيا… “الانتخابات الخطيرة”
في 17 آذار (مارس)، تنطلق الانتخابات الرئاسيّة في روسيا على وقع حرب لا تجري كما اشتهاها الكرملين. سيفوز الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين بالانتخابات على أيّ حال، وهذا ما لا يشغل بال المراقبين. يهتمّ متابعو الشأن الروسيّ على وجه التحديد بنسبة الأصوات التي سيحصدها بوتين بعد فشل الحرب وشعور المواطنين ببعض تداعيات العقوبات الغربيّة عليهم بل ببعض هجمات المسيّرات على موسكو.
كتب الباحث في الشؤون الروسيّة مارك غاليوتي أنّ هذه الانتخابات “لا تزال خطيرة على بوتين”. بحسب رأيه، يواجه الرئيس الروسيّ تحدّي أن يكون قائداً حربيّاً من دون أن يتحدّث كثيراً عن الحرب بسبب فشلها. ويضيف أنّ “الماكينة السياسيّة” تخطّط لفوز بين 75 و80 في المئة من الأصوات مع نسبة اقتراع تصل إلى 70 في المئة. وسيكون تفادي احتجاجات 2011 بسبب “التزوير” أمراً صعباً. حتى الحوارات الانتخابيّة “المضبوطة” قد تترك مجالاً لأصوات معترضة.
بالرغم من أنّ الحرب ليست إيجابيّة بالنسبة إلى روسيا، يبقى أنّ بوتين كسب بعض الشعبيّة بالمقارنة مع ما قبلها. ويقول أستاذ التاريخ العسكريّ في جامعة كالغاري ألكسندر هيل بعد زيارة حديثة إلى موسكو وريازان إنّ الروس، وخصوصاً كبار السنّ، يؤيّدون الحرب فعلاً بعدما تحوّلت سرديّة موسكو من أنّها تحارب في أوكرانيا لحماية الأقلّيّات الروسيّة وإبعاد النّاتو إلى أنّ الغرب يحاول تدمير روسيا.
في جميع الأحوال، تبقى معرفة نتائج الانتخابات الروسيّة مهمّة. حتى مع افتراض أنّ الأرقام النهائيّة مرسومة مسبقاً، تظلّ قدرة الكرملين على تحديد هكذا مسار لافتة لاكثر من سبب. سيدلّ ذلك إلى أنّ “الماكينة السياسيّة والأمنيّة” في الكرملين متماسكة بعدما تعرّضت لأصعب تحدّ لها منذ أشهر مع الانقلاب الذي قاده زعيم منظّمة “فاغنر” شبه العسكريّة يفغيني بريغوجين. لكن إذا أعقبت الانتخابات احتجاجات شعبيّة كما حصل منذ أكثر من عقد فسيصبح مفهوم الاستقرار السياسيّ في روسيا خاضعاً لمراجعة جذريّة. سبق أن بدأت دول حليفة تاريخيّاً لروسيا بالابتعاد عنها بعد الحرب، وقد يتسارع هذا المسار لو تسبّبت الانتخابات المقبلة باضطرابات غير متوقّعة.
القارة العجوز… قارّتان
كان مثيراً للاهتمام توصيف الكاتب والمؤرّخ تيموثي غارتون آش لمشاهداته الأخيرة وهو يتنقّل في أوروبا. لقد جال في عشرين دولة أوروبّيّة خلال 2023 ولاحظ وجود قارّتين أوروبّيّتين: واحدة ليبيراليّة مهتمّة بحكم القانون وتتمثّل بأحزاب من يمين ويسار الوسط، وأخرى شعبويّة تهيمن عليها أحزاب اليمين المتطرّف. لكنّه لاحظ أيضاً أنّ قسماً من الأوروبّيّين (خصوصاً الغربيّين منهم) لم يتأقلموا مع فكرة أنّ قارّتهم تشهد أكبر حرب منذ سنة 1945.
بين 6 و9 حزيران (يونيو)، سيدعى نحو 450 مليون أوروبّيّ من 27 دولة لانتخاب أكثر من 700 نائب أوروبّيّ. ينجم عن هذه الانتخابات تغييرات في المفوّضيّة الأوروبّيّة والمجلس الأوروبّيّ. من المتوقّع أن تبقى الهيمنة الكبيرة لأحزاب يمين ويسار الوسط بالرغم من أنّ المجلس الأوروبّيّ سيكون أكثر تشتّتاً السنة المقبلة وفق بعض التوقّعات. لن تكون الحرب الروسيّة على أوكرانيا وحدها التي تسود أجندة الأوروبّيّين السياسيّة. هناك أيضاً ارتفاع كلفة المعيشة وإمدادات الطاقة والتغيّر المناخيّ والهجرة إلى جانب الحرب الإسرائيليّة على “حماس”.
ثمّة هامش من التفاؤل لدى بعض المحلّلين تجاه تأثير اليمين المتطرّف على السياسات الأوروبّيّة. بنجامين فوكس وإليونورا فاسكيز يعتقدان أنّ الحديث عن انتصارات اليمين المتطرّف مبالغ به مع تذكير بفوز الوسطيّين في بولندا واستمرار الاشتراكيّين في إسبانيا وتوقّعات بفوز “العمّال” في بريطانيا أواخر 2024. وباستثناء الهجرة التي تظهر اتّجاهاً في فرض حدود أقوى، ثمّة دعم عامّ لتدخّل الدولة كما لمكافحة تغيّر المناخ.
مع ذلك، ثمّة توقّعات بصعود الأحزاب اليمينيّة المتطرّفة أو المشكّكة بالاتّحاد الأوروبّيّ في الانتخابات المقبلة. وعقدت مجموعة من تلك الأحزاب لقاء في إيطاليا أوائل الشهر الحاليّ للاتّفاق على تشديد نهج التكتّل تجاه الهجرة وتخفيف سياساته المناخيّة لحماية الوظائف والصناعة. وكان حاضراً رئيس “حزب من أجل الحرّيّة” الفائز حديثاً بالانتخابات الهولّنديّة ورئيس “التجمّع الوطنيّ” الفرنسيّ جوردان بارديلا الذي قال إنّ أوروبا لا تستطيع أن تصبح “فندقاً بخمس نجوم لأفريقيا”. حقّق فيلدرز نتيجة فاقت توقّعات استطلاعات الرأي. يبقى معرفة ما إذا كانت هذه المجموعة ستكرّر مفاجأة كهذه في الانتخابات الأوروبّيّة المقبلة.
الأميركيّون يقرّرون مصير العالم
بالكاد تنفّس حلفاء أميركا الصعداء بعد نجاح جو بايدن بانتخابات 2020، حتى وجدوا أنفسهم سريعاً أمام احتمالات عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بعد الانتخابات المقبلة في 5 تشرين الثاني (نوفمبر). ليس واضحاً ما إذا كان ترامب يعتقد فعلاً أنّ الانتخابات “سُرقت منه”، لكنّ مناصريه يعتقدون ذلك وهذا المهمّ. وعدهم ترامب بأنّه سيكون “انتقامهم“. ربّما يرغب ترامب بـ”الانتقام” من الحلفاء الآسيويّين والأوروبّيّين أيضاً هذه المرّة.
في حال فوز ترامب قد تكون أوكرانيا أوّل ضحاياه. ربّما يفرض ضغطاً على كييف من أجل التخلّي عن أراضيها مقابل توقّف موسكو عن المطالبة بالمزيد. حلف شمال الأطلسيّ قد يكون ثاني ضحاياه. نجح المشرّعون الأميركيّون مؤخّراً بتمرير قانون يمنع أيّ رئيس مستقبليّ من اتّباع هذه الخطوة بدون موافقته، لكنّه قد يطعن بالقانون أمام المحاكم. ولا يزال ترامب يمدح القادة الأوتوقراطيّين مثل الزعيم الكوريّ الشماليّ كيم جونغ أون. نقطة الاختلاف هذه المرّة أنّه لن يجد ارتياحاً في كوريا الجنوبيّة حيث يعدّ رئيسها الحاليّ يون سوك يول مؤيّداً لسياسة الضغط على كوريا الشماليّة أكثر من سلفه. وعلى أيّ حال، قد لا يكون كيم نفسه مهتمّاً باعتماد سياساته السابقة تجاه الولايات المتحدة وكوريا الجنوبيّة. كذلك، يمكن أن يكون ترامب مهتمّاً بتليين سياساته السابقة ضدّ الصين، بالنظر إلى ما يصدر عنه من إشادات بشي، وهي مشكلة أخرى لحلفاء الولايات المتحدة في شرق آسيا.
بمرور الأيّام، ترتفع حظوظ ترامب الانتخابيّة، أوّلاً على المستوى التمهيديّ الجمهوريّ كما على المستوى الأميركيّ العام حيث تتحسّن أرقامه حتى في الولايات المتأرجحة. واختارت المحكمة العليا في ولاية كولورادو منع وجود ترامب على قوائم الاقتراع النهائيّة بسبب “تورّطه” في أحداث اقتحام الكابيتول. من المرجّح أن تعيد هذه الخطوة (قد تبطلها المحكمة الفيديراليّة) تسليط الضوء أكثر على ترامب الذي يستفيد عادة من الصخب الإعلاميّ حساب خصومه، كما حصل مثلاً بعد توجيه الاتّهامات الجنائيّة إليه. فمعظم الناخبين الجمهوريّين يعتقدون أنّ هذه الاتّهامات مدفوعة سياسيّاً لا قضائيّاً.
إذا عاد ترامب إلى البيت الأبيض فسيكون هناك احتمال كبير، إن لم يكن الأكبر، بعودة واشنطن إلى الانعزاليّة على الساحة الدوليّة. ستستفيد الصين وروسيا على الأرجح من هذه السياسة، وقد يشهد نظام ما بعد الحرب الباردة التحوّل الأكبر منذ ثلاثة عقود.