تاريخ القطار العربي.. الاستعمار وخطوط نهب الثروات
في ظل عودة الحديث عن القطارات في مصر بسبب الحوادث المتتالية وحالة الترقب في المغرب والجزائر وتونس لعودة تشغيل الخط الرابط بينهم وارتفاع الدعوات في السودان بضرورة إعادة تأهيلها وتطويرها بما يتماشى مع استحقاقات المرحلة الاقتصادية والاجتماعية، ارتأى “نون بوست” من خلال ملفه الجديد “قطارات عربية” العودة إلى تاريخ وظروف إنشاء السكك الحديدية في العالم العربي والبحث في علاقتها بالاحتلال، خاصة أن هذا القطاع الحيوي في مجال المواصلات يعد من أهم ميكانيزمات وآليات الظاهرة الاستعمارية في العالم.
تاريخ السكك الحديدية
أول تصاميم السكك الحديدية التي أنشأها ريتشارد رينولدز عام 1767 كانت مصنوعة من حجارة مقسمة بشكل أخاديد تنزلق عليها عجلات خشبية مثبتة على العربات التي تجرها قوة بشرية أو حيوانية، لكنها تطورت على نحو هائل بفضل الاختراعات المتتالية التي عززتها الثورة الصناعية، فقد اخترع ترافيثيا عام 1801 قاطرة بخارية تعمل على الطرقات، وفي عام 1813 بنى ويليام هيدلي قاطرة بوفينج بيلي لاستخدامها في المناجم، وتبعه محرك جورج ستيفنسون بعد عام.
ستيفنسون هو مؤسس أول خطوط السكك الحديدية لذلك سُمي بأبو القطارات، يعود له الفضل في اختراع القاطرة البخارية الأكثر شهرة “روكيت” عام 1814، مستعينًا بفكرة محرك السفر بلينكينسوب، فقد صمم المحرك بلوشير “Blucher” لنقل الفحم على طرق كيلينغ روث القديمة.
في عام 1817، بنى قاطرةً بست عجلات لسكة حديد كيلارنوك وترون، وترأس عملية بناء سكة حديد بطول 25 ميلًا تصل بين ستوكتون ودارلينغتون عام 1821، ونال شهرةً واسعةً بعد أن صمم أقوى قاطرة عام 1829 شارك بها افتتاح سكة حديد ليفربول ومانشستر في 15 من سبتمبر/أيلول 1830.
بعد ذلك التاريخ، سرعان ما أدرك الصناعيون أن السكك الحديدية يمكن أن تحقق ربحًا واضحًا، ففي عام 1835 والأعوام التي تلته عرفت بريطانيا وبعض الدول الأوروبية ازدهارًا كبيرًا في إنشاء السكك الحديدية بعد أن مرت بأطوار عديدة من أهمها:
- 1671 اكتشاف دنيس بابان قوة البخار المائي المضغوط الذي سيلعب دورًا مهمًا في تطوير السكة الحديدية.
- 1738 تغليف السكك الخشبية المستعملة بالمناجم الإنجليزية بلوحات من حديد لتقويتها ودعمها.
- 1789 اخترع الإنجليزي وليام جيسوب سكة الصلب.
- 1804 ريتشارد تريفيذيك صنع وجرب أول قاطرة في العالم تجر خمس عربات محملة بعشرة أطنان من الحديد.
- 1808 صنع قاطرة أكثر كفاءةً من الأولى.
- 1823 أسس جورج وروبير ستيفنسون أول مصنع لصنع القاطرات بنيوكاسل.
- 1825 تدشين أول خط حديدي في العالم موجه للمسافرين باستعمال القاطرة البخارية بإنجلترا.
- 1828 استغلال الخط الحديدي بين أندريزيي وسان إيتيان بفرنسا.
- 1831 تجربة أولى القاطرات التي صنعها المهندس مارك سقان بفرنسا.
- 1835 تدشين خطين للسكك الحديدية الأول ببلجيكا والثاني بألمانيا.
- 1838 اختراع عربة خاصة بالبريد لشحن وتفريغ البريد في أثناء السير بين برمنغهام وليفربول.
- 1839 افتتاح الخط الحديدي الرابط بين باريس وفرساي إضافة إلى خط حديدي بهولاندا وإيطاليا.
- 1840 استعمال التلغراف أول مرة بإنجلترا لمتابعة حركة القطارات.
- 1842 تشغيل أول قاطرة كهربائية في العالم.
تاريخ القطار العربي
باستثناء قطار الحجاز، لم تكن فكرة إنشاء سكة حديد في عالمنا العربي وليدة القرار السياسي المحلي والحاجة الاقتصادية الملحة الناتجة عن التحولات الديمغرافية والاجتماعية، بل أنشئ القطار العربي تلبيةً لحاجة الدول الغربية التي عرفت نهضة وطفرة صناعية كبيرة.
ساهمت الثورة الصناعية في الغرب في تزايد التنافس الاقتصادي والتجاري بين الدول الإمبريالية لاقتسام النفوذ عبر العالم والسيطرة على الأسواق والبحث عن منافذ للاستثمارات المالية لتصريف فوائض إنتاجها وكذلك من أجل التزود بالمواد الأولية.
فمن بلاد الشام إلى شمال إفريقيا، أدرك المستعمر أهمية طرق النقل وخاصة السكك الحديدية للسيطرة على تجارة الموارد الطبيعية في المناطق الداخلية لهذه الأقطار، لذلك بدأ الغرب في أواخر القرن التاسع عشر، بتداول فكرة بناء السكك الحديدية في البلدان العربية التي كانت تحت حكم الدولة العثمانية.
في تلك الفترة، كان الباب العالي في أسوأ فتراته جراء الأزمة السياسية والمالية الحادة، الأمر الذي دفع فرنسا وبريطانيا إلى التنافس على نيل امتيازات إنشاء السكك الحديدية في أكثر من قطر عربي، ومهد الطريق أمام هذه القوى للتدخل المباشر في شؤونها.
خطوط نهب الثروات
ما من شك في أن السكك الحديدية كانت بمثابة الحبل السري للظاهرة الاستعمارية وهمزة الوصل بين المستعمر وهدفه الاقتصادي المتمثل أساسًا في استنزاف الموارد الأولية من البلاد المستعمرة وتسهيل استثمار رؤوس الأموال الأوروبية في تلك الجغرافيا الجديدة.
البحث الكرونولوجي لواقع السكك الحديدية بالعالم العربي، يكشف حقيقة الدور الذي جسدته في المشروع الاستعماري الغربي، فالشركات الأجنبية العاملة في مجال النقل وإنشاء خطوط القطارات كان وجودها في الأقطار العربية سابقًا للاحتلال العسكري، ما يعني أن المشروع الكولونيالي تسرب من خلال هذه الشركات.
ففي مصر، أنشئ أول خط حديدي عام 1852، وقام ببنائه روبرت ستيفنسون بطلب من الخديوي سعيد، وكان طول الخط نحو 51 كيلومترًا، تلاه خط ثان عام 1868 يصل بين القاهرة والإسكندرية بطول 220 كيلومترًا.
كما أنشئ الخط الرابط بين القاهرة والإسماعيلية بطول 160 كيلومترًا، وكان الهدف من بنائه نقل القادمين من خارج مصر لحضور حفل افتتاح قناة السويس عام 1869.
عام 1898 بدأ إنشاء الخط الحديدي الثالث من القاهرة إلى الأقصر، أقيمت شركة خاصة تولت مد خط السكك الحديدية إلى مدينة أسوان في أقصى الجنوب، وبعد دخول البريطانيين للسودان عام 1899 قررت سلطات الاحتلال تعديل خط القطار من الأقصر حتى أسوان ثم الشلال الأول في أقصى جنوب مصر ليصبح امتدادًا طبيعيًا لشبكة السكك الحديدية في مصر، وتم ذلك المشروع عام 1926 حيث امتد الخط إلى وادي حلفا داخل الحدود السودانية.
من المؤكد أن القطار المصري كان معبرًا لبريطانيا نحو مستعمراتها الأخرى وكان طريقًا رسميًا للإمبراطورية الاستعمارية إلى حين اكتشاف الطريق المائي الجديد المعتمد على قناة السويس.
أما في لبنان، فقرر الكونت أدمون دو برتوي، وهو ضابط سابق في البحرية الفرنسية انتقل للعيش في بيروت، إنشاء خط يربط الشام ببيروت، ونجح في ذلك عام 1857 بعد نيله رخصة من السلطنة العثمانية تسمح له بشقه.
يُمكن القول إن القطار اللبناني كان نتاج التقاء مصالح تجار بيروت وطرابلس مع مصالح الشركات الأوروبية ومن ورائهم الأنظمة الكولونيالية الغربية التي سعت إلى تفعيل النقل كمرفق حيوي في احتلال المنطقة.
بدوره عرف السودان، أول خط حديدي عام 1896 في أثناء محاولة اللورد كتشنر الاستيلاء على البلاد، حيث امتد هذا الخط من وادي حلفا في أقصى الشمال إلى مدينة الخرطوم بحري في وسط البلاد.
وبعد أن اتضح أن نقل الصادرات والواردات عن طريق المواني المصرية كان يشكل معوقًا أساسيًا للتطوير الاقتصادي للقطر، تقرر إنشاء خط حديدي فرعي يربط سواكن بالخط الحديدي الرئيسي في عطبرة سواكن عام 1904، وفي بداية عام 1905 بدأ تشييد الميناء الجديد وربطه بمحطة سلوم في 28 من يناير/كانون الثاني سنة 1906 وسط احتفالات اللورد كرومر بإنشاء سكة حديد البحر الأحمر في بورتسودان.
وفي أبريل/نيسان سنة 1909 بدأ العمل في مد الخط من الخرطوم وفى نهاية ذلك العام وصل الخط إلى مدني واستمر تشييد الخط غرب النهر حتى وصل الأبيض في ديسمبر/كانون الأول سنة 1911، ما كان له الأثر الفعلي في ربط كل من الجزيرة وأواسط كردفان بأسواق العالم.
لم يختلف الأمر كثيرًا في الجزائر، حيث تم إنشاء محطة قطار العاصمة في أثناء الاحتلال الفرنسي للبلاد مباشرة بعد إقرار المرسوم الإمبراطوري بتاريخ 8 من أبريل/نيسان 1857 القاضي بإنجاز خط سكة حديد من الجزائر إلى وهران.
تكفلت شركة السكك الحديدية الجزائرية بإنجاز هذا المشروع وفق صيغة امتياز استغلال سكة حديد بواسطة عقدين بتاريخ 20 من يونيو/حزيرن 1860 و11 من يوليو/تموز 1860، وذلك بعد أمر أصدره نابليون الثالث عام 1858 بتهيئة الأرضية الممتدة من قصبة الجزائر إلى غاية بوفاريك تحضيرًا لإنجاز سكة حديد.
تم إنهاء بناء محطة قطار الجزائر وتدشينها عام 1865 في أثناء إنجاز خط سكة حديد من العاصمة إلى وهران، وبدأ استغلال خط السكة الحديد من الجزائر إلى البليدة فعليًا ابتداءً من 8 من سبتمبر/أيلول 1862 بالنسبة لقطار السلع، ثم في 25 من أكتوبر/تشرين الأول 1862 بالنسبة لقطار المسافرين.
وبلغ طول السكك الحديدية التي أنشأها المستعمر في الجزائر عام 1892، 3033 كيلومترًا وهي تضاهي الشبكة الهولندية التي بلغ طولها آنذاك 3079 كيلومترًا، كما سمح الفرنسيون للشركات التابعة لهم باستغلال غابات الحلفاء مقابل التكفل ببناء سكة حديد تربط الهضاب العليا بموانئ التصدير.
البلاد التونسية لم تكن بدعًا من المستعمرات، فقد عرفت هي الأخرى في 2 من أغسطس/آب 1872 تدشين الخط الحديدي تونس حلق الوادي (16 كيلومترًا)، تلاه في 1 من سبتمبر/أيلول 1875 تشغيل الخط تونس – باجة – جندوبة لاستغلال مناجم الرصاص.
وفي عام 1876 رخصت حكومة الباي لشركة باتينول ببناء الخط الحديدي تونس سوق الأربعاء، وفي 1882 منح للفرنسيين امتياز لتركيز واستغلال شبكات النقل الحديدي بتونس بمقتضى رسالة 25 يوليو، كما تم تمديد الخط الرابط بين تونس جندوبة إلى غار الدماء لإيصاله بالشبكة الحديدية الجزائرية، بالإضافة إلى استغلال الخط الرابط بين صفاقس وقفصة (1898-1909) أين تقع مناجم الفوسفات بأم العرائس.
كما ربط الاحتلال الفرنسي مستعمرتيه التونسية والجزائرية عام 1930 عبر إيصال الخط الرابط بين تونس قلعة خصبة بالشبكة الجزائرية عبر عين الكرمة في تونس وغيلان بالجزائر.
في إفريقيا، لم يكتف الاستعمار الفرنسي باستغلال السكك الحديدية لنهب الثروات الباطنية، فقد أصدرت السلطات الفيشية في عام 1940، أمرًا بإنشاء شبكة ممتدة من معسكرات تربط بين شمال إفريقيا (بما في ذلك الجزائر والمغرب) وغربها الفرنسي (بما في ذلك السنغال ومالي وغينيا) لبسط هيمنتها العسكرية ووأد حركات المقاومة وتجنيد المقاتلين في حروبها المتفرقة.
صمم الفرنسيون العديد من هذه المعسكرات في المغرب والجزائر لدعم مشروع إنشاء خط سكة حديدية يُسمى خط البحر المتوسط – النيجر (Mer-Niger)، يهدف لربط مدينة داكار السنغالية بالمدن الساحلية الجزائرية، إلا أن الخلافات الناشئة بين القيادات الفرنسية أعاقت تنفيذ هذا المشروع، وظل هذا خط أحد أحلام القرن التاسع عشر غير المحققة.
تاريخيًا، لجأت القوى الاستعمارية سواء الفرنسية أم البريطانية إلى تدعيم سياسة الاستيطان من خلال المشاريع الاقتصادية المختلفة وشركاتها الكبرى، فقبل أن تطئ أقدام عساكره أرض العرب بحث المحتل عن إثبات مشروعية وجوده بالاستثمارات، فما الكومسيون المالي في تونس والمديونية في مصر إلا محاولات لتحطيم سلاسل الممانعة.