1

أميركا العراقية أم العراق الأميركي؟!

01 أغسطس 2021 مـ

فـــؤاد مطـــرصحافيّ وكاتب ومؤلّف لبنانيّ، خبير بالشّؤون العربيّة ولاسيّما مصر والسّودان والعراقAA

أن يزور رئيس وزراء العراق واشنطن للتحادث مع رئيس الولايات المتحدة وكبار المسؤولين في الإدارة الأميركية وفي وزارة الدفاع ووكالة المخابرات، فهذا حدث في حد ذاته، ذلك أنه على مدى نصف قرن سبق قيام الجمهورية في العراق، لم يحدث أن قام مسؤول كبير بزيارة واشنطن وزيارة بالمثل للعراق من مسؤول أميركي ذي شأن، ثم سجل الملك فيصل الثاني في تاريخ العلاقة بين الدولتين على المستوى الرسمي ما يجوز اعتباره قص شريط العلاقة العراقية – الأميركية، وبحيث لا يستمر العراق في نظر دول الشرق والغرب إحدى نجمات الفضاء البريطاني الأكثر نفوذاً في زمن الثلاثينات والأربعينات.
ومع أن الزيارة اكتسبت المظهر السياحي أكثر من السياسي، فإن مستواها الملكي أسبغ عليها أهمية نوعية، فضلاً عن انطباع بأن المحيطين بالملك الفتى فيصل الثاني وتحديداً خاله عبد الإله، وبعض حلقات الاستشارة في الديوان الملكي كانوا في صدد تقليب الأمور والقراءة في أوجه مستقبل المنطقة على خلفية الحربيْن الأولى والثانية التي أظهر راسمو الخرائط حذاقة في تحديد خطوط وفي رسم مناطق صراع بغرض ترسيخ النفوذ على بطاح الخليج.
المهم أن فيصل الثاني الذي قضى لاحقاً شهيداً في مهرجان الجنون الانقلابي الثوري الدموي، أمضى بضعة أيام سياحية في عدد من المدن الأميركية وعاد باهراً الذين أحاطوا به من أبناء العم سام، كما أنه عاد هو الآخر مبهوراً بالكثير من الجديد الذي اكتشفه خلال الزيارة التي دامت أربعين يوماً في المجاليْن الثقافي والعلمي وفي الرياضة والتطور العمراني. والحديث حول هذا الانبهار لم يتوقف في رحلة العودة على متن السفينة نفسها التي أبحرت به وبمرافقيه من بلاد الرافدين إلى ديار العم سام التي كان يجسدها زمنذاك الرئيس هنري ترومان المعترف الثاني بعد الكرملين بدولة إسرائيل.
يمم الزعيم عبد الكريم قاسم الذي قاد الانقلاب العسكري ضد النظام الملكي وأمعن تصفية عشوائية برجال ونساء في القصر وفي دواوين أهل الحُكْم والأحزاب، وجه انقلابه الدموي شطر الكرملين. وخطوة تلي خطوة اتسع هامش العنف في العراق ثم بعدما اختلط الحابل الناصري بالنابل البعثي كثر قطاف الرؤوس لمجرد أن تينع، وعلى خلفية هذا القطاف صنّف الحكام الثوريون الولايات المتحدة بأنها عدوة، وتنوعت مفردات التنظير في شأن هذه العداوة، ووصلت إلى حد القطيعة الدبلوماسية المطرزة بعبارات انفعالية.
في ظل إعادة نظر في الجفاف الذي جعل العراق لا يجني مكسباً من تحدي أميركا ويواصل القطيعة معها، قرر النظام الصدَّامي فتْح ثغرة في جدار العداوة غير المبررة وبعثت الإدارة الأميركية برسائل يرحب الموفدون، وهم إما رجال أعمال ومديرو مصارف وإما أعضاء في الكونغرس، بالرغبة العراقية للكتابة في صفحة جديدة.
هذا التوجُّه كان مقدراً له أن يأخذ مداه لولا أن الرئيس صدام حسين استعاد جنوحه الثوري وقرأ رد الفعل الأميركي على أن أميركا تحتاج إليه وتريده الملاكم الخليجي الدائم في حلبة الصراع الذي لا يُحسم مع إيران، وأنه في هذه الحال رأى أن يدخل خيمة العم سام ممسكاً بالدولة الجارة الكويت وفي تصوره أن هذا الفعل سيلقى استحسان أميركا التي سترى أنه سيحمي الكويت من طمع إيران فيها، وبالتالي تتسامح في موضوع الغزوة التي قام بها وزادها استهجاناً عربياً ودولياً اعتبارها في مثل هذا الشهر قبل 31 عاماً «فرعاً أعيد إلى الأصل».
قراءة شخصية من جانبه أو من مستشارين له لا فرق. المهم أنها كانت قراءة خاطئة، أوجبت حرباً على العراق تجاوزت طبيعتها من حيث المشاركة الحربيْن العالميتيْن الأُولى ثم الثانية. وأوجدت هذه الحرب حالة مدعاة للاستغراب وهي أن أميركا وبريطانيا ساعدتا الأطراف المصنفة معارضة التي تريد بهما شراً مستطيراً، ومن دون أن تأخذ هذه الأطراف في الاعتبار أنه لولا الدور الحربي الذي قادته الدولتان الكبريان أميركا وبريطانيا وبعض الدول الحليفة الأوروبية والعربية والإسلامية لما أمكن الذين ورثوا النظام الصدَّامي أن يكونوا حكاماً للعراق.
المعادلة الموضوعية هي أن يكون رموز الحُكْم في عراق ما بعد إسقاط النظام الصدَّامي هم أفراد كتيبة الخط الأمامي التي تتمسك بأفضل العلاقة مع أميركا، وهذا مجرد رد جمائل. لكن هؤلاء اعتبروا الدور الأميركي – البريطاني كما لو هو واجب أو ضريبة، تم القيام به وانتهى دفْع الضريبة وعلى أصحاب الدور الرحيل كمحتلين.
القراءة للمرة الثانية خاطئة كما قراءة صدام حسين لعوائد غزوته. وإلى ذلك تناسى القوم أن بريمر كان الحاكم الذي محَّص في الدستور والذي أصدر قرارات وأنشأ محاكم ورعى تنظيرات من جانب زعامات أمعن بريمر نفسه بقطفها لمجرد أن أينعت.
معادلة في منتهى الاستغراب للمرة الثانية وهي أنه لولا الفعل الأميركي – البريطاني بالنظام الصدَّامي لما كان لهؤلاء الذين ينشطون لمصلحة إيران وتحت ذريعة رفض بقاء القوات الأميركية والبريطانية في العراق أن يتسيّدوا. هذه القوات كانت صديقة عندما أسقطت لهم عراق صدام. وهذه القوات عليها الرحيل وكذلك عدم إبرام أي معاهدات تبقيها، وأن البديل هو ميليشيات متنوعة الأسماء مرجعيتها إيرانية.
الزائر الرسمي الأول إلى أميركا بعد الأول الملك فيصل الثاني مصحوباً بخاله عبد الإله، كان نوري المالكي، 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2013، حاول تسويق احتضان أميركا الحزب الذي احتل والحزب الذي ورث (أي أوباما بعد بوش الأب ثم بوش الابن) العراق الإيراني الذي يحقق للسياسة الأميركية مآرب لكن بعد خلو العراق من الوجود العسكري والتأثير السياسي والنفسي الذي يحققه هذا البقاء للقوات الأميركية، كانت ورقته أن تجربة أحمد الجلبي انتهت خاسرة لإيران ولأميركا في وقت واحد، فيما ورقة نوري المالكي رابحة بإذن المرشد خامنئي.
العرض ساذج ومن الطبيعي أن ينظر ساكن البيت الأبيض وسائر مفاصل إدارته بجدية أكثر إلى الزائر الثالث إياد علاوي الذي ذهب بنية المقتنع بأفضل العلاقة مع أميركا ومن دون شروط. وعندما وقف متحدثاً في الكونغرس مسجلاً عبارات الشكر للدور الأميركي فإن السيناتورات وقفوا مصفقين طويلاً. انزعاج الميليشيات في العراق من هذا التودد لا يهمه. يعرف سلفاً أن أي علاقة طيبة مع أميركا هي لمصلحة العراق وضد مشاريعهم الحرسية الخامنئية.
وضْع النقاط على الحروف وبثقة متناهية في النفس إزاء العلاقة مع أميركا جاء من الزائر الرسمي الثالث مصطفى الكاظمي، الثلاثاء 27 يوليو (تموز) 2021، ربما لأن كيمياء رئاسة بايدن أوبامية النكهة الذي عرف التركيبة العراقية جيداً بما هي عليه من خطوط تماس ومن مكائد ما زال بعضها مؤجل التنفيذ، تختلف عن كيمياء رئاسة ترمب وارث خصائص كيمياء التركيبة البوشية التي أخفقت في زرع شتلات تنمو وتزهر وتثمر لمصلحة أن تكون أميركا العراقية عند حُسْن ظن العراق الأميركي بالمنظور الكاظمي بعد العلاوي. العراق مع أميركا وأميركا في العراق رواية متعددة الفصول. الحديث حولها يتنوع. والله مع الصابرين… إنما إذا صبروا.

التعليقات معطلة.