لن تكون (خرج ولم يعد)
جودة مرسي:
لم يحالفني الحظ في أن أشد الرحال لأشاهد بلاد الأرز والجمال لبنان، البلاد التي اشتهرت بإنجاب النخب من الشعراء والمثقفين والفنانين والإعلاميين وأحدث خطوط الموضة، وكانت واحة لإنتاج الأعمال الفنية بكل أنواعها، وقد عرفتها عن طريق قوَّتها الناعمة التي جسَّدت العديد من الأعمال الفنية الناقلة لنا ما تتميز به هذه البلاد كوجهة سياحية وتاريخية مميزة، إلى جانب الحديث القريب مع العديد من الأصدقاء اللبنانيين بثقافتهم وخصالهم الودودة.
وأكثر ما يميز لبنان هو عاصمتها الشهيرة بيروت والتي حفلت بالعديد من الأسماء التي اشتهرت بها على مرَّ العصور مثل بيروت الأبية، مدينة الآلهة إبان فترة الفينيقيين، وأكثر ما يروق لي هو مسمى زهرة الشرق. وأنجبت لبنان للعالم العربي العديد من الفنانين والمطربين الذين أثروا الفن بكل أشكاله، تمثيل، طرب، ألحان، إخراج إلى آخره من العناصر التي أثروا وأمتعوا بها المشاهد العربي، منهم سعاد محمد، نجاح سلام، فريد الأطرش وأخته أسمهان، فيروز، الشحرورة صباح، وديع الصافي، الرحبانية، آسيا داغر، ماري منيب، ولن تكفي هذه المساحة لذكر الكثير من هؤلاء المبدعين.
ما جعلني أبدأ بالحك في الذاكرة هو تلك المكالمة التي وردتني من صديق عزيز ضاق به الحال في بلاد الأرز ويريد الهجرة إلى بلد عربي آخر، قاصدا القاهرة بتاريخها وصخبها، فهي شديدة التشابه لعاصمته بيروت، لعله يجد فيها قواعد ومفردات الحياة اليومية التي صعب عليه إيجادها في بلده الحبيب، فبادرت نفسي بسؤال تعجبي: لماذا يريد الرحيل عن بيروت الجميلة، الأصيلة، المتمردة، الصامدة رغم كل ما مرَّ عليها من أزمات ومؤامرات، بيروت مدينة الثقافة والموضة، التي اشتهرت بمتاحفها الإسلامية والمسيحية، مثل المسجد العمري الكبير الذي أنشئ أثناء الفتح الإسلامي أوائل القرن الأول من الهجرة، متحف بيت بيروت الموثق للأحداث التاريخية، ساحة الشهداء أو كما يسميها البعض ساحة الحرية، شارع الحمراء الصاخب بأجوائه المفعمة بالحياة، المقاهي، والمطاعم المختلفة، والعديد من الأماكن السياحية التي تشتهر بها بيروت؟!
جلست أتذكر الحديث عن هذا الجمال وهذه الحياة المملؤة بالتناقضات التي تضيف متعة لمن يعيشها، وكيف كان يحكي لي أخي الذي عاصر لبنان في بداية السبعينيات عن أنها كانت من أجمل مدن العالم، وكانت تستقبل الوافدين للعمل بها بكل ترحاب ـ كما هي تجربتي في وطني الثاني الحبيبة عُمان ـ وخلال تذكري لكل تلك الأحداث أفقت من أسئلتي المتكررة على خبر عاجل أزعج فؤادي ورفع أنفاسي وهو انفجار خزان للوقود في بلدة التليل بعكار شمال لبنان بلغ عدد ضحاياه 20 شخصا، بالإضافة إلى إصابة 100 آخرين، وجاء تزامنا مع ذكرى مرور عام على انفجار مرفأ بيروت الذي وقع في الرابع من أغسطس العام الماضي نتيجة انفجار 2750 طنا من مادة نترات الأمونيوم مخزنة في المرفأ، وتسبب في وفاة ما يقارب 205 وإصابة 6500، وشبَّهته وسائل الإعلام حينها بانفجار قنبلة هيروشيما من حيث الشكل وقوة التدمير، ولا يزال القضاء اللبناني يحقق ويبحث عن الجاني والمتسبب والمخطئ.
إنني أقول لصديقي البيروتي إن ما يحدث في لبنان يحدث في العديد من البلدان العربية مع اختلاف الأدوات والأحداث والنتائج، لأن هناك قوة إقليمية تساعدها أيادٍ مالية، ومجتمع دولي متخاذل يريد للوطن العربي أن يظل يقطر دما، حتى يكون الدم نزيفا مستمرا، ووجب علينا أن لا نجهل تجارب الآخرين، فهناك دولتان يضربان مثلا (اليابان وألمانيا) كيف كانا وكيف أصبحا منارة لعالم الاقتصاد والمال، بعد أن استطاعا توحيد الاتفاق المجتمعي والخروج من تحت الأنقاض، وابتعدا عن أيديولوجيات الآخرين التي دائما ما تؤدي لتغذية النزاعات. إن لبنان يجب أن يكون ويظل وطنا واحدا لكل اللبنانيين وبلدا للثقافة والفن والموضة والجمال، كما تعودنا أن نراه دائما. وأهلا ومرحبا بك يا صديقي زائرا ومقيما، ولن أقول ضيفا. اجلس كما تشاء، فوطننا العربي أعتبره ـ كمواطن عربي ـ وطنا واحد لكل العرب من المشرق للمغرب ومن المحيط إلى الخليج، وأنا أعلم من تجاربي السابقة معك أنك لن تطيق البعد عن محبوبتك بيروت، وستعود ولن تكون “خرج ولم يعد”.