من مكة إلى بيروت… العراق يحاول كسر احتكار إيران للدين والطاقة
22-08-2021 | 08:50 المصدر: النهار العربي
السيستاني
A+A-منذ تسعينات القرن الماضي، تزايد الاستثمار الإيراني في أحد أهم القطاعات الاجتماعية، وهو ما يعرف بـ “التقريب بين المذاهب الإسلامية”، واستفادت طهران من الفراغ الذي خلفته “كلاسيكية” المدرسة الشيعية في مدينة النجف العراقية التي لا تبدي اهتماماً كبيراً للفعاليات الإعلامية، أو الشؤون السياسية، غير أن معادلة القرن الماضي تتزحزح تدريجياً، بخاصة بعد عقد مؤتمر “المرجعيات العراقية” في مدينة مكة السعودية، ما دفع الأوساط الإيرانية في العراق إلى شن واحدة من أكبر هجماتها الإعلامية المستمرة رغم مضي أكثر من أسبوعين على نهاية المؤتمر.
وخلاصة فكرة التقريب بين المذاهب الإسلامية، تتلخص في جمع رجال دين من الشيعة والسنّة في قاعات كبرى، ليُخرج كلّ منهم من جعبته ما “يطرّي الأجواء” بين المذاهب، كسرد الروايات والفتاوى “المعتدلة”، لينفض الجمع بانتظار المؤتمر اللاحق. ولمع اسم الشيخ الإيراني محمد علي التسخيري كأحد روّاد هذه الفعالية الإيرانية، قبل أن يوافيه الأجل في آب (أغسطس) الماضي، ليترك فراغاً يبدو أن هناك مَن بدأ يتقدم لشغله بعد مرور عام على رحيله. وحين كان الداعي إيرانياً، لم تكن فكرة التقريب بين المذاهب الإسلامية تمثل إشارة إلى “العمالة أو الميوعة أو التنازل” بالنسبة الى صناع القرار الإيراني الذين كانوا يتفاخرون بتنظيمهم تلك المؤتمرات، كما تُظهر قائمة “روّاد التقريب” اسمي مرشدي الثورة علي خامنئي وروح الله الخميني، وفضلاً عن ذلك، أضفى ترؤس إيران مساعي التقريب، طابعاً من الزعامة ومنح إيران “الوجاهة” والتصدّر خلال العقود الماضية.
غير أن النزوع الإيراني إلى تأسيس الميليشيات وزرعها بين شعوب المنطقة، نقل هموم تلك الشعوب إلى منطقة أخرى، فالمشكلة لم تعد تتعلق بالروايات التاريخية بل بالجرائم التي ترتكبها مجاميع مسلحة ترفع بنادق وكواتم “الفقيه” حيثما حلّت، وتدريجياً، تراجع الاهتمام بالتقريب بين المذاهب أو تنقية التراث، لمصلحة التخلص أو الحد من نفوذ الميليشيات، وبهذا، تراجعت أهمية تلك المؤتمرات، فالفاعل الإيراني بسجله المملوء بالانتهاكات واستعداء شعوب المنطقة، لم يعد “وسيطاً” مقبولاً لإصلاح ذات بين المذاهب، بل أصبح مُطالباً بكفّ أذرعه عن المنطقة، قبل الغوص في التراث.
في الأثناء، يبدو أن النجف -بما تعنيه من إرث شيعي- تنبهت إلى خطورة الاحتكار الإيراني لملف الاعتدال الشيعي والتقريب، وبدأت حوزة النجف بين فترة وأخرى بإطلاق خطابات جريئة على صعيد التعايش السلمي وكبح الميليشيات والدولة المدنية وغيرها من المجالات.
المؤتمر الأخير للمرجعيات العراقية في مدينة مكة السعودية، ضمّ عدداً من رجال الدين العراقيين، بعضهم محسوب على النجف، وبعضهم الآخر من المذهب السنّي، وقد أثارت مشاركة رجال دين شيعة عراقيين في المؤتمر، غضب الأوساط الإيرانية في العراق، ومنذ انطلاقه حتى اللحظة، لا تتوقف الماكينة المقربة من فصائل “الحشد الشعبي” عن إطلاق خطابات التخوين والعمالة ضد المشاركين في المؤتمر، رغم أن هذا (الكار) أي التقريب بين المذاهب، كان في ما سبق أحد أدوات الهيمنة الإيرانية في المنطقة. بين عشيةٍ وضحاها، أصبح عقد مؤتمر للتعايش بين المذاهب الإسلامية “تفريطاً بالثوابت الشيعية، وخنوعاً للوهابية” وغيرها من العبارات التي اطلقتها الماكينة الإعلامية الإيرانية خلال الأسبوعين الماضيين. لكن خلف الخطابات المنفعلة، تمكن ملاحظة السبب الرئيس لهذا الغضب، فالنجف العراقية أقدمت على خطوة جريئة بالشراكة مع مكة السعودية، لسحب بساط “التفاهمات الإسلامية” من تحت أقدام مؤتمرات التقريب الإيرانية، وهي جهود إذا ما استمرت وأثمرت، ستشكل خسارة استراتيجية في إحدى أهم قطاعات الاستثمار الإيراني منذ عقود.
ضغطت الأوساط الإيرانية في العراق على مكتب المرجع علي السيستاني لأجل إصدار بيان يتبرأ فيه من المشاركين في مؤتمر المرجعيات العراقية في مكة، وأخذت الحملة الإيرانية مساراً أقرب إلى ابتزاز المرجع السيستاني إعلامياً، واتهامه بالتستر على “خائني المذهب” المشاركين في المؤتمر، وكان مُتوقعاً أن تُصدر أجواء المرجع السيستاني بياناً أو تسريباً تحت الضغط الهائل، إلا أن النجف صمدت، وبدلاً من إصدار بيان براءة، أقدمت على خطوة أكثر تقدماً، حين خرج أحد قادة الفصائل التابعة لمرجعية النجف -والتي سبق أن انسحبت من “هيئة الحشد الشعبي”- حميد الياسري وأطلق خطاباً شديد اللهجة، قرّع فيه “أتباع الخارج” ودان “فتاوى القتل التي يصدرها المفتي من الخارج” في إشارة لا تقبل اللبس إلى منظومة الولي الفقيه.
لكن، بعيداً من بوادر التنافس العراقي الإيراني على مستوى “التقريب بين المذاهب الإسلامية”، تبدو الأزمة اللبنانية الحالية، أيضاً كإحدى ساحات التنافس بين بغداد وطهران. أخرج مهندسو التفاهم العراقي – اللبناني صفقة الوقود، لتبدو أقرب إلى اتفاقية اقتصادية “هادئة” بين بلدين شقيقين، وطرفين متساويين، يتبادلان المصالح، حيث “يبيع” العراق مليون طن من زيت الوقود مقابل “خدمات وسلع لبنانية”، بينما ظهر زعيم “حزب الله” حسن نصر الله في خطابه الأخير، وهو يتحدث بكامل الحماسة والثورية، عن شحنة (مازوت) مخصصة لتشغيل المولدات الأهلية، قال إنها ستتحرك خلال ساعات من المرافئ الإيرانية صوب لبنان، مغلفاً القضية بأكبر كمية ممكنة من الحمولة السياسية ولغة المحاور، وكأن لبنان بلد محاصر، أو كأنه قطاع غزة الذي ينتظر قوافل الإغاثة!. ورغم أن بغداد وبيروت أكملتا منذ تموز (يوليو) الماضي وضع اللمسات الأخيرة على الاتفاق، إلا أنه توقف ودخل في “ثقب أسود” من دون أن يتمكن الرأي العام في البلدين من معرفة أسباب عدم إقدام الجانب اللبناني على فتح مناقصة لاستلام عروض الشركات التي يفترض أن تتولى مهمة استبدال شحنات البترول العراقي، بأخرى قابلة للاستخدام في تشغيل محطات الكهرباء الحكومية في لبنان، وهي الخطوة الأخيرة قبل المباشرة بضخ الكميات المتفق عليها.
وسبق أن شهد العراق عدداً من هذه “التوقفات المُريبة” وغير المفهومة، بخاصةً في مجال استيراد الكهرباء، فمنذ سنوات، تصل أنباء الربط الكهربائي بين العراق ودول الخليج إلى اللمسات الأخيرة، ثم يتوقف التقدم بشكل مفاجئ. ويبدو أن إرادةً سياسية ما، تتدخل في رسم شكل المخرج الذي يُراد تصميمه لإنقاذ البلدين، فلا حل لأزمة الكهرباء العراقية عبر الربط الخليجي أو العربي مع العراق، والطريق الوحيد “المسموح به”، هو الاستمرار باستيراد الغاز الإيراني لتشغيل محطات الكهرباء العراقية، وكذا في شأن العرقلة الغامضة للتفاهم العراقي – اللبناني. وقد جرّب العراقيون خلال فصول الصيف في العقد الماضي، معنى الارتهان إلى طهران في ملف الكهرباء، حيث أصبح خبر قطع إمدادات الغاز أو الكهرباء، خبراً سنوياً مألوفاً مع بلوغ الصيف ذروته، وبذرائع ثابتة كتأخير السداد أو ارتفاع حاجة إيران.
وفي المحصلة، سواءَ كان المُنطلق من حوزة النجف أم من حكومة بغداد، وسواءَ كانت ساحة التنافس على صدارة التشيع والتقريب بين المذاهب، أم توفير الطاقة إلى الدول الشقيقة والمجاورة، فإن العراق بدأ يُظهر بعضَ الخشونة غير المعهودة في مسار منافسة التمدد الإيراني في المنطقة. ورغم أن العراق يغرق هو الآخر في الأزمات والإخفاقات، إلا أن خطوات من قبيل المشاركة الجريئة في مؤتمر مكة، أو على صعيد التعاون مع لبنان في مجال الطاقة، تبدو لبِنات أولى لاجتراح “احتكاك أنداد” بين بغداد وطهران، وهو طريق سيكون محفوفاً بالعراقيل، بخاصة مع التخمة التي تشهدها الساحة العراقية بالأذرع الموالية لإيران، لكن فرض واقع جديد في العلاقة بين العراق وإيران، كما تكشف الوقائع، ليس مهمة مستحيلة.