إنقاذ النهضة من النهضة والغنوشي
راشد الغنوشي
حركة النهضة في تونس قامت بتضحيات وعرق جبين راشد الغنوشي. لهذا السبب يشعر الرجل أنه يملكها، كما يملك البقال دكانا له. إنها دكانه السياسي، وليس من المعقول أن تُصبح ملكا لشخص آخر. وهو لم يشعر بأنه يخالف أي شيء في مواثيق الحركة ونظامها الداخلي عندما أقال مكتبها التنفيذي ليعين مكتبا تنفيذيا جديدا على مقاسه.
قياديون في الحركة، مثل عبدالحميد الجلاصي، نائب الغنوشي، وعبداللطيف المكي ونورالدين عرباوي وسمير ديلو وفتحي العيادي وغيرهم، يظنون أنها حركة سياسية ويتعين أن تستعيد مكانتها في أوساط مؤيديها. وأحد الخيارات التي يطرحونها للتخلص من إرث الغنوشي هي “النقد الذاتي”.
وتواجه هذا الفريق معضلتان. الأولى، هي أن سياسات الغنوشي هي سياسات النهضة، وهم أنفسهم كانوا قد انساقوا في تيارها على نحو ما يسير الماء في مجراه الطبيعي. والثانية، هي أنه هو صاحب الدكان.
الآن ترتفع الأصوات للتخلص من الغنوشي، على اعتبار أنه خاض في “سياسات وتحالفات تكتيكية” أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه من انهيار اقتصادي وفساد وتشرذم سياسي وعجز متواصل عن إقامة حكومات فاعلة على امتداد 11 عاما.
وهذا تصور غير منصف، وغير صحيح. غير منصف، لأنه يتجاهل حقيقة أن النهضة ما كانت لتحظى بما هي عليه من النفوذ لولا تلك السياسات والتحالفات التكتيكية. وغير صحيح، لأن النهضة على امتداد كل هذا الوقت كانت هي نفسها، وظلت تلعب الدور نفسه، حتى وقعت البلاد في المأزق الذي أجبر الرئيس قيس سعيّد على إقالة الحكومة وتجميد البرلمان. بمعنى آخر: النهضة ظلت تستمرئ طبيعتها بالذات، حتى وقع الفأس بالرأس.
التغيير إذا أصبح ضروريا لإنقاذ النهضة، فإنه يتطلب التخلي ليس عن الغنوشي وحده، وإنما أن تتخلى النهضة عن نفسها، لتكون حزبا آخر. هل تقدر؟ الجواب الأقرب إلى الواقع: لا.
ولهذا السبب يشعر صاحب الدكان، أنه في مكانه الطبيعي. وهو ليس وحيدا على أي حال. فلديه من الزبائن ما يكفي للشعور بالراحة، بأنه لو لم يبق معه أي أحد، فالنهضة تظل هي صورته، وهو صورتها.
القدرة على التلوّن، وركوب الموجة، وفرا لحركة النهضة في تونس الفرصة للنجاة غير مرة. وهذه ماركة مسجلة باسم الغنوشي. وعندما أعلنت الحركة استعدادها لممارسة النقد الذاتي، فإنها لم تكرر إلا اللعبة التي يلعبها الغنوشي حتى وهو نائم.
الغاية الوحيدة لهذه اللعبة هي البقاء في محيط السلطة، إن لم يكن تولي السلطة نفسها. أو على الأقل البقاء كلاعب سياسي يرفع ويخفض، يقيم تحالفات ويقود مؤامرات.
لو أراد قياديو الحركة الذين ينتقدون الغنوشي على “تكتيكاته” أن يتخلصوا من هذه اللعبة، فإنهم سوف يجدون أنفسهم في دكان آخر. هذا منصف أكثر وصحيح أكثر. وهم إذا نجحوا في التخلص من الغنوشي وحده، ليحافظوا على ألعابه، فسوف يجدون أنفسهم يمضون في المجرى نفسه. إذ لم يعد كافيا لبقاء هذه الحركة أن تمارس التلوّن، ولا أن تنحني للعاصفة ريثما تمر. وهناك خمسة أسباب جديرة بالاعتبار لذلك.
أولها، أن التجربة علمت التونسيين كيف أن التلوّن لم يوفر دليلا واحدا على أن هذه الحركة تستحق أن تكون في موقع السلطة، ولا في أي موقع قريب منها، وربما ولا حتى البقاء في مجمل الحياة السياسية العامة. وذلك لأنها، في كل دور من أدوارها، وفي كل مكان احتجزته لنفسها، كانت تتصرف كحركة تخدم مشروعا أيديولوجيا أنانيا، لا صلة له بمصالح البلاد ولا بإدارة شؤون هذه المصالح. حتى انتهى الأمر إلى أنها رعت الفشل، ولم تكتف بالتغاضي عنه.
وقادت البرلمان إلى أن أصبح مؤسسة تدابير مؤامراتية لصنع تحالفات فساد، إلى أن بلغ الحال به أن أصبح حلبة ملاكمة، تمارس الحقد على الرأي الآخر.
وثانيها، أن الفشل لم يكن مجرد فشل في رعاية الاقتصاد والصحة العامة والخدمات الاجتماعية، ولا حتى الاهتمام بمصائر الفقراء الذين انخدعوا بخطابها الديني، ولكنه امتد إلى الدولة نفسها، حيث تفككت إداراتها بأن صارت إدارات حصص وتوزيع مغانم.
وثالثها، أن سياسات التمكين، هي نفسها، جعلت من حركة النهضة حزب عصابة لا حزب بلد. و”التمكين” هو فلسفة كل حركة من حركات الإسلام السياسي. إنه الجذر الرئيسي الذي تتغذى منه، وهو الهدف الذي لا تفتأ تسعى إليه في كل شأن ومن كل موقع. ولو أنك نزعت عن هذه الحركات القدرة على متابعة هذه الفلسفة، فإنها تنهار أو تتمرد لكي تتحول إلى وحش كاسر.
هذه حركة لا يكفي أن تمارس نقدا ذاتيا لكي تعود في وقت لاحق لتكرر الشيء نفسه كما لا يكفي أن تتخلص من الغنوشي لكي تنقذ نفسها من دونه فتعود لتمشي على خطاه
النهضة تخاطب جمهورها، من الفقراء وممن وقعوا ضحية للأزمات الاقتصادية، بخطاب إيماني، يجعلهم يعتقدون أنها منقذهم من الفقر والأزمات. إلا أن فلسفة “التمكين” تجعل النظر إلى هذا الجمهور من منظار ذاتي، وذلك بأن تقدم لهم من الخدمة ما يتلاءم مع نفوذها. وحيث إن الأمر لا يتعلق بسياسة مصالح عامة، ولا خدمات عامة، ولأنها لا تنطلق حتى من اعتبارات طبقية -وهذه على ضيقها عامة أيضا- فإن الفقر يتفاقم، بينما تعزز الحركة مكانتها بين الذين تستنفع بهم ويستنفعون بها فحسب. وما ذلك شيء من عمل حزب. إنه شيء من عمل عصابة، تخدم مَنْ يخدمها، وترعى مصالح مَنْ يرعاها.
ورابعها، أن الخطاب الإيماني نفسه مزيف. إنه خطاب يخدم أغراضا انتهازية فحسب. وهو خطاب دعاية انتخابية لا خطاب إدارة عامة لمصالح المجتمع. وقضاياه لا صلة حقيقية لها بمعالجة الأزمات الواقعية.
وحيث إن الخطاب الديني يخدم غرضا انتخابيا، فإنه خطاب إشكالي على صعيد مواجهة المشكلات العامة. فهو لا يستند إلى رؤية اقتصادية واضحة، ولا إدارة تحترم التقاليد المؤسساتية، ولا حتى التخطيط استناداً إلى قراءة عاقلة للإمكانيات والموارد ومواطن التنمية المطلوبة. ولذلك فإن الفوضى غالبا ما تكون هي النتيجة.
وخامسها، أن الارتباط بالخارج، لا يجعل النهضة، كباقي حركات الإسلام السياسي، تخدم أجندات ومصالح الخارج -بوضعها في المقدمة- فحسب، ولكنه يحولها إلى حركة تآمر حقيقية على موارد البلاد وإمكانياتها وفرصها الخاصة للنجاة، على الأقل، بما تملك.
هذه الطبيعة التآمرية هي التي قادت النهضة إلى تغليب مشاريع استثمارية خارجية، في مقابل تكريس الفشل في مواطن العمل والإنتاج داخل البلاد. فبينما كانت تجارة الفوسفات، على سبيل المثال، تنهار أمام أعين الجميع، كانت النهضة تسعى لكي تتدبر مشاريع للتبادل التجاري والاستثماري تتيح لرعاتها التحكم بمفاصل اقتصادية كبرى.
وتكريس الفشل، مقصود بحد ذاته، لجعل البلاد أقل مناعة أمام الحاجة إلى تمويلات خارجية لإدارة وتمويل ما كانت قادرة على إدارته وتمويله بنفسها.
هذه حركة لا يكفي أن تمارس نقدا ذاتيا، لكي تعود في وقت لاحق لتكرر الشيء نفسه. كما لا يكفي أن تتخلص من الغنوشي، لكي تنقذ نفسها من دونه، فتعود لتمشي على خطاه.
لا يكفي أيضاً أن تتحول إلى حزب مصالح عمومية وتتخلى عن ثقافة العصابة وأنانيتها ونزعتها للهيمنة. سرطان هذه الثقافة هو ما يجب أن يُستأصل.
الدكان نفسه يجب أن يتوقف عن بيع بضاعته الفاسدة.