الشرق الأوسط وتحديات الفراغ الأميركي
07-10-2021 | 07:00 المصدر: النهار العربي
انسحاب أميركي من العراق
A+A-من أهم القوانين الكونية، قانون الفراغ، الذي يشكله غياب مكوّن، ويملؤه بالضرورة مكوّن بديل. والتحولات الجيوسياسية في إطار هذا القانون من طبائع الحياة. فإمبراطوريات وممالك تتمدد لتشغل كل المساحات الفارغة والمفرّغة. ثم تتقسّم أو تنهار، ببطء أو بسرعة، فتتشكل فراغات صغرى وكبرى. وتتسابق على ملئها الأمم، والمكوّنات السكانية، وطلاب السلطة، جماعات وأفراداً، بسلاح أو بقدرات قيادية، من خارج المساحة ومن داخلها. انهيار الهرموأسوأ ما في هذا المسلسل المرعب، تلك الحلقات التي ينهار فيها الهيكل الهرمي دفعة واحدة، نتيجة لغزو خارجي، أو حرب أهلية، أو ثورة عارمة، أو قد يكون السبب غياب مفاجئ لسلطة حاكمة، موحّدة، كموت إمبراطور بلا خليفة، أو حزب مركزي بلا بديل. ففي المرحلة الانتقالية، يتقاتل الناس على العروش والفتات، وتنهار منظومة الأمن والعدل، وينشغل أصحاب الاختصاص عن مهنهم وأعمالهم وعلومهم وتعليمهم، بالدفاع عن حيواتهم ومصالحهم ولقمة عيشهم، فتنهار منظومة التجارة والعمل والانتاج، وتتداخل الاختصاصات والأدوار بين جاهل وعالم، ناجح وفاشل، مقتدر ومدّعٍ. يرتد الإنسان في مثل هذه الظروف عن كل المكتسبات التي هذّبت شخصيته، وارتقت بسلوكياته، ويستيقظ رجل الكهف في داخله، فيسود العنف وتحكم الفوضى ويكسب الجولة الأكثر قسوة وعدوانية. ومع مرور الوقت، تتعمق الجروح، ويتراكم الثأر، ويصعب التصالح المستقبلي بين المتخاصمين. الفوضى الخلّاقةوعندما خرجت علينا كونداليزا رايس مستشارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش للأمن القومي، والمحافظون الجدد بمخطط “الفوضى الخلّاقة” في “الشرق الأوسط الكبير”، كان قانون الفراغ حاضراً في تفكيرهم، وكان الهدف استصناعه وتحضير عفاريته، بدلاً من انتظار قد يطول. أطلق الجمهوريون المشروع، وتبعهم الديموقراطيون في الإدارات الأميركية المتوالية. وتحوّلت أميركا الى قابلة لعملية قيصرية، بمحفزات ديموقراطية وإسلاموية، لتوليد الدويلات الجديدة. وأسندت حضانة المواليد الجديدة لإيران وتركيا، ودعمها لقطر وإسرائيل، وحكمها للتنظيم العالمي لـ”الإخوان المسلمين”. وكان الهدف إسقاط الحكومات القائمة، وتقسيم البلدان على خطوط تماس طائفية ومذهبية وعرقية. والنموذج الأولي لهذا التصميم كان العراق، وتبعته سوريا وليبيا واليمن والسودان والصومال، ولم يسلم منه حتى لبنان بمساحته الصغيرة وتعداد سكانه المحدود. الخروج قبل الاستكمالأما من نجا من دول الخليج وشمال أفريقيا، فليس لاستثنائهم من الاستهداف، وإنما لصلابة الهيكل: نظام الحكم، الجيش والأمن، الاقتصاد، وتلاحم القيادة والشعب. أما المشروع، فلا يزال قائماً، والاستهداف مستمراً، والنوايا نار تتلظى تحت الرماد. ثم جاء القرار الإستراتيجي الأميركي بالخروج من المنطقة قبل استكمال المخطط، وتعجيل الخطوات نتيجة الخسائر الهائلة التي تكبدها في أفغانستان والعراق، ولمواجهة تصاعد القوة الصينية وحضورها الاقتصادي والتقني والأمني، وبخاصة في شرق آسيا. شكل هذا الخروج فراغاً يتنامى مع كل خطوة تتم، ونية تُعلن. فالدب الروسي والتنين الصيني كانا ينتظران هذه الفرصة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وحلفاء أميركا في المنطقة تعلّموا دروساً تاريخية عديدة، منذ تخلي واشنطن والغرب عن شاه إيران، ثم مبارك مصر، وزين تونس وعلي اليمن، وأخيراً عن حكومة أفغانية أُنفقت عليها تريليونات الدولارات ثم سُلّمت من دون مقابل أو حتى اعتذار لعدو الأمس. عبثية التطبيقتبدو السياسة الأميركية ومشاريعها للهدم والبناء، الدمج والتقسيم، الغزو والتسليم، عبثية للخبراء وغير الخبراء على السواء. فرغم فشل النظرية عند التطبيق، كما حدث في العراق الذي وعدت واشنطن بتحويله الى جنة الرخاء والتنمية والأمن، وأيقونة الديموقراطية والتقدم، واصلت الإدارات الأميركية المتعاقبة تجاربها المعملية على حساب مصائر الشعوب. وبدلاً من تحمل مسؤولية الفشل والتعويض عن الضرر، تعلق الأخطاء على مشجب أهل المنطقة وحكوماتها العميلة. فلا سلمنا من جرم الاحتلال، ولا من فوضى الانسحاب. ومع ذلك كله، وكنتيجة له، تشهد المنطقة حراكاً سياسياً غير متوقع بين الحلفاء والأعداء. فالمصالحة الخليجية – المصرية، تبعتها توافقات مفاجئة مع سوريا وتركيا وإسرائيل، وواعدة مع إيران. وكأنما أدرك الجميع أن الفراغ فرصة لتصحيح مسارات كانت تعرقلها السياسات الأميركية، وتحمّل مسؤوليات كانت على عاتق الأساطيل والقواعد الأجنبية، كأمن منطقة الخليج ومحاربة “داعش” و”القاعدة” وتأمين الممرات البحرية. سلة التحالفاتوفي الوقت نفسه، واصلت كبرى دول المنطقة تنويع سلة تحالفاتها وشراكاتها الدولية. فإضافة الى الدول الأوروبية، شملت القائمة قوى فاعلة، وصاعدة، وأكثر التزاماً واستقراراً سياسياً، وأقل تدخلاً في الشؤون الداخلية، وتقلباً في مواقفها. ومن أبرزها روسيا والصين واليابان وكوريا الجنوبية والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل. وواكب هذا التوجه توقيع اتفاقات تعاون مليارية في مجالات واعدة، كالطاقة النووية والهيدروجينية والشمسية، وتوطين صناعة السلاح والفضاء، واستزراع الصحراء، وتحلية المياه. إضافة الى الاتفاقات التجارية والاستثمارية البينية. ولعل من ملامح هذا التوجه شراء الصندوق السيادي الصيني نسبة 1 في المئة من أسهم شركة “أرامكو” السعودية، والتفاوض على زيادتها الى الضعف، بقيمة تصل الى مئة مليار دولار، إضافة الى استثمارات مليارية أخرى في قطاعات الطاقة والتعدين والصناعة. وفي المقابل، تتنامى استثمارات سعودية بالمستوى نفسه في صناعة وتجارة وتخزين النفط ومنتجات الطاقة الصينية والصناعات البتروكيماوية والتقنية. وهناك أيضاً استثمارات خليجية لا تقل أهمية في مشاريع طريق الحرير والطوق البحري الذي يمر عبر الجزيرة العربية في طريقه إلى أوروبا وأفريقيا، تشمل البنية التحتية، والتصنيع، والنفط والغاز. ولا تفوتنا هنا الإشارة الى رسائل ثقافية برمزية عالية، كقرار السعودية تدريس اللغة الصينية في الجامعات والثانويات، والتعاون الواسع بين الجامعات والمراكز البحثية في البلدين بإشراف مجلس تنسيق وزاري أعلى، يتابع ويدعم كل أوجه التعاون البيني. وإعلان “جائزة محمد بن سلمان”، للترويج للغة العربية وآدابها وفنونها في الصين، وتشجيع التبادل الثقافي بين الثقافة السعودية والثقافة الصينية. عودة القطبيةبعد تفكك الاتحاد السوفياتي، ودخول روسيا في مخاض الانتقال من شيوعية الحكم، واشتراكية الاقتصاد، الى ديموقراطية السلطة ورأسمالية السوق، انتهت القطبية الدولية التي سادت المشهد الجيوسياسي الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. كما فقد المعسكر الشرقي جل أعضائه في شرق أوروبا ووسط آسيا، وتخلى عن دعم من بقي منهم على العهد، في أميركا الجنوبية وأفريقيا وشرق آسيا. وأنضم كثير منهم الى المعسكر الغربي، ودخل بعضهم في حلف “الناتو” والاتحاد الأوروبي. وهكذا أعلن التحالف الغربي انتصاره، والولايات المتحدة ريادتها وقيادتها للعالم، وفرضها نظاماً جديداً تحكمه وتسيطر على منظماته. استمر هذا الوضع حتى مطلع الألفية الثانية، عندما قاد رجل الاستخبارات السابق فلاديمير بوتين، بلاده الى مرحلة جديدة، تتحد فيها القوى، وتتعافى مفاصل الحكم والاقتصاد، ويقوى الجيش والأمن. وبعد غروب شمس موسكو عن العالم، عاد الدب الروسي الى مناطق غادرها وجدد عهد الصداقة معها، وحارب للدفاع عن مصالحه مع أنظمتها، كسوريا وليبيا. كما رفع من وتيرة نشاطه في سوق السلاح والنفط والغاز والطاقة النووية السلمية. أما الصين، فقد أدى صعودها السريع الى تشكيلها قطبية جديدة، تلعب بقوانين السوق الحر نفسها، مع الاحتفاظ بمركزية الحكم، واشتراكية الدولة.خيارات المشرقيينوهكذا بات أمام العالم خيارات ثلاثة، بعد عقد كامل من التفرد الأميركي والهيمنة الغربية. وصار لدول منطقة الشرق الأوسط مساحة أوسع للتحرك والتفاوض وتنويع الموارد والمصالح والشراكات. ولحسن الحظ أن هذا تم في الوقت الذي تنسحب فيه الولايات المتحدة من المنطقة، وتتنافس القوى العالمية على الفراغ الناتج. وفي حال قرر قادة المنطقة تجاوز الخلافات البينية، والتخلي عن الارتباطات القطبية، وتحرير سياساتهم الدولية من التزامات الأحلاف السابقة، فسيكون أمامهم فرصة تاريخية لتشكيل قوة إقليمية متكاملة، يجمعها التاريخ والثقافة والجوار الجغرافي، وتتكامل فيها الموارد البشرية والطبيعية والمالية. وبتنسيق سياساتهم وترتيب أوراقهم التفاوضية، يستطيعون معاً بناء الشرق الأوسط الجديد وتشكيل اتحاد إسلامي متماسك أمنياً واقتصادياً وتنموياً، يبني شراكاته الدولية المستقبلية على أسس قوية وندية ومصلحية. فنحن في زمن الأقطاب والتحالفات الدولية، أقوى معاً.