إيران بين تكتيك التفاوض واحتمالات الحرب: من الخاسر؟
الاثنين – 19 شهر ربيع الأول 1443 هـ – 25 أكتوبر 2021 مـ رقم العدد [15672]
يقول وزير الخارجية الأميركية الأسبق هنري كسينجر عن إيران، إنَّ عليها أن تختار أن تكون دولة أو ثورة؛ بهذا التخيير قررت إيران كدولة التفاوض حول برنامجها النووي، لا للوصول إلى حل، بل لتحقيق هدف الثورة وهو حيازة السلاح النووي؛ فإذا فشلت المفاوضات يبرز منطق الثورة وحقها بحيازة السلاح النووي أو في أسوأ الظروف الوصول إلى العتبة النووية. ويبدو أن الدول الغربية بعد ست جولات من المفاوضات في فيينا فهِمت أن المفاوضات هدفها المعلن التفاوض، بينما المضمر هو هدف الثورة، وهذا يتعارض مع مصالح الدول الغربية التي وجدت نفسها أمام نقطة الحسم؛ الاستمرار بالتفاوض من أجل التفاوض أو البحث عن خيارات بديلة.
تكمن مشكلة الدول الغربية أنَّ خياراتها البديلة تتقلص كثيراً، ومعظمها لم ينفع مع إيران، ولهذا فإنَّ الجميع بدأ يتحدَّث بلهجة مختلفة وأولهم إسرائيل، التي أعلن رئيس وزرائها أنَّه بينما يتفاوض العالم مع إيران، تدور المفاعلات النووية ويقترب موعد إنتاج السلاح النووي، ولا يمكننا كعالم متحضر أن نسمح لنظام إرهابي بامتلاكه. كما قالت المستشارة الألمانية إن المفاوضات تقترب من «لحظة الحسم»، وعبر وزير الخارجية الأميركي بلينكن عن استعداده لاستخدام خيارات أخرى، ملمحاً إلى الخطة «ب»؛ على هذا المنوال صرحت فرنسا وبريطانيا، لتتشكل بذلك قناعة غربية بأن على إيران أن تحسم أمرها: أن تكون دولة أو ثورة.
مع وصول إبراهيم رئيسي ابن الثورة للرئاسة، ومعه طاقم جديد مؤمن بالثورة، وبأن الأعداء هدفهم إطاحة النظام الثوري، وأن الخيار هو التصدي، فإنه يقرأ الواقع قراءة مختلفة عن حكومة روحاني التي وصلت إلى تسويات متقدمة جداً في ست جولات مع الدول الراعية للاتفاق النووي في فيينا. ويبدو أن حكومة رئيسي ترى أن الوقت الآن مناسب للمناورة، وأنها قادرة على الصمود في وجه العقوبات، وأن التأخير في العودة إلى المفاوضات سيمنحها الوقت الكافي للوصول إلى العتبة النووية التي تدخلها في النادي النووي. واتخذت حكومة رئيسي خطوات تعزز موقفها التفاوضي من خلال الاستفادة من التغيرات في الموازين الدولية وبالذات من الخلاف الروسي – الصيني – الأميركي؛ هذه الاستفادة تتمثل بالتوجه الإيراني شرقاً وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، وباكستان وشرق آسيا ووسطها لإفشال العقوبات.
وتزامناً مع ذلك، أطلقت الحكومة الإيرانية حملة دبلوماسية لتسوية الخلافات مع جيرانها، وبدء مرحلة استعادة العلاقات الطبيعية من خلال تفاهمات بينها وبين تلك الدول ومن أهمها المملكة. وتعتقد الحكومة الإيرانية، وهذا الأهم، أن إدارة الرئيس بايدن مشغولة جداً بمزاحمة الصين، ولا تريد تورطاً جديداً في منطقة الشرق الأوسط، وأن شواهد كثيرة في المنطقة تؤكد أن أميركا غير متحمسة لمواجهة مع إيران.
وتؤكد حكومة رئيسي، من باب المناورة، استعدادها للعودة للمفاوضات، وأن التأخير يعود لأسباب داخلية إيرانية، وأنها تريد عقد محادثات مع الدول الأوروبية بمعزل عن الولايات المتحدة، لكنها لم تحدد بعد موعداً لبدء المفاوضات؛ هذه المناورة هدفها دق إسفين بين الاتحاد الأوروبي وأميركا بعد التقارب الواضح بينهما في أعقاب هزيمة ترمب، ووصول الرئيس بايدن إلى السلطة. فإيران لن تخرج من التفاوض بقرار أحادي، بل ستعمد إلى إحراج مفاوضيها عبر وضع شروط، ومفاوضة حول تلك الشروط منها بدء مفاوضات جديدة، ورفع العقوبات على المدى القصير عن إيران، كشرط للعودة للالتزام بالاتفاق النووي الذي تصر على أنها التزمت به، وأن من انتهكه هي الولايات المتحدة، وأنه لا ثقة بأي اتفاق ما لم تكن هناك ضمانات حقيقية.
يتضح جلياً أن حكومة رئيسي وضعت استراتيجيتها: التفاوض من أجل التفاوض، والوصول إلى الهدف النووي؛ لكن ما لم تنتبه له، أو ما لا تريد الانتباه له، أن الغرب بدأ يكتشف هذه اللعبة، ويصر على التعجيل، وإلا فإن الخطة «ب» ستُفعَّل، ومعها سيتغير كل شيء. لكن الدول الغربية لم تكشف عن الخطة «ب»، ولعل إبقاءها سراً هو ما يجعلها مخيفة؛ فهل ستكون عقوبات صارمة جداً، أم السماح لإيران بالعتبة النووية كأمر واقع، أم ضربة عسكرية قوية؟ فالخيار الأول جربته الدول الغربية، ولن يعطي مفعوله إلا بمعاونة الصين وروسيا، وهذا الآن غير ممكن نظراً للتبدلات الدولية، وحالات العداء والمنافسة الظاهرة للعيان. وخيار العتبة النووية سيكون خطراً جداً على أمن المنطقة، والانتشار النووي، والأكثر على سيادة إسرائيل في المنطقة؛ فحصول إيران على النووي سيغير موازين القوى في المنطقة، وسيدفع دولاً إلى امتلاك تلك التكنولوجيا لحماية أمنها، وإعادة التوازن؛ هذا سيناريو مرعب للولايات المتحدة وبالتحديد أوروبا القريبة من المنطقة؛ كما أن إسرائيل لن تقبل بأن تكون تحت رحمة الميليشيات الإيرانية المحمية بالنووي.
في خضم هذه الانسدادات، فإن خيار الحرب، رغم هوله، يبقى محتملاً، طالما أن كل طرف يظن أن الآخر يناور، ويبني حسابات خاطئة؛ وهذه الحسابات ستكون نتيجتها واقعاً لا مناورة فيه: إما أن تملك إيران سلاحاً نووياً أو لا تملك. وهنا سيكون القرار الحاسم بيد الولايات المتحدة، لأنها الدولة الوحيدة التي تملك المقدرات لتدمير هذا البرنامج النووي، إما مباشرة أو بدعم منها لإسرائيل؛ وقبل أن يُتخذ هذا القرار فإن خياراً آخر يمكن تجريبه، وهو تنشيط العودة الأميركية إلى الشرق الأوسط، والبدء فعلياً في مواجهة التمدد الإيراني في المنطقة، وتقليصه، لأن إيران تعرف أن قوتها لا تنبع من الداخل الإيراني، بل من الخارج الإيراني المتمثل بالميليشيات، والمنطق الثوري الديني. هذه المواجهة في حال اعتمادها، رغم تبعاتها، ستُوصل رسالة واضحة مؤداها أن عهد التسامح انتهى، وأن المواجهة ستكون هذه المرة بالدم والقنابل والموت.
هذا الواقع قد يؤدي لقراءة جديدة من حكومة رئيسي تُجنِّب المواجهة، أو إلى معركة غير متكافئة يدرك الجميع وأولهم إيران أنها الخاسر الأكبر فيها.