ديبلوماسية لا تهدأ.. أردوغان يُثبت أقدام أنقرة في إفريقيا
على الرغم من طبيعة العلاقات الدبلوماسية بين تركيا وإفريقيا التي تحمل في مجملها بعدًا اقتصاديًا وثقافيًا، إلاّ أن الزيارات المتكررة لرجب طيب أردوغان إلى المنطقة وإيلاءه العلاقات الثنائية بين أنقرة ودول القارة السمراء أولوية قصوى في سياسته الخارجية، بات يأخذ منحى أمني وعسكري، ما أثار الكثير من التساؤلات حول مساعي أنقرة للتمدّد على حساب قوى إقليمية أخرى كالصين وروسيا وفرنسا ذات النفوذ التاريخي.
جولة أردوغان
اختتم الرئيس التركي جولته الإفريقية الجديدة التي شملت نيجيريا وأنغولا وتوغو، مؤكدًا في تغريدة على موقع تويتر على أن استثمارات بلاده المباشرة في قارة إفريقيا تبلغ 6 مليارات دولار، مشيرًا إلى أنّ الهدف الحقيقي لأنقرة هو: “تحقيق الربح مع إفريقيا والتنمية والنمو والسير معًا”.
الرئيس التركي أرفق تغريدته بصورة انفوغرافيك حول الاستثمارات التركية بإفريقيا ومساعدات التنمية التي قدمتها تركيا إلى القارة، والتي أظهرت قيمة استثمارات أنقرة في المنطقة بقيمة 6 مليارات دولار، ومساعدات تنموية بقيمة 8.7 مليارات دولار، إضافة إلى تأسيس مجلس أعمال مشترك مع 45 دولة إفريقية.
أردوغان بدأ جولته بأنغولا، حيث التقى بنظيره جواو مانويل لورينسو، وأكّد خلال اللقاء أن بلاده ستواصل الوقوف إلى جانب البلد الإفريقي في مكافحة الإرهاب والتعاون في مجال الصناعات الدفاعية، مشيرًا في الوقت ذاته إلى وجود إمكانات كبيرة للتعاون بين البلدين في مجال الطاقة.
كما أشار الرئيسين إلى سعي البلدين لرفع حجم التبادل التجاري بينهما إلى مستويات تناسب إمكاناتهما، فيما أكّد أردوغان على أهمية الاستثمارات التركية في عموم أنغولا، مشيدًا بالإصلاحات الاقتصادية المطردة في البلاد.
أمّا المحطة الثانية، فكانت في توغو، حيث عبّر الرئيس التركي أثناء اجتماعه بنظيره فور غناسينغبي عن استعداد أنقرة للتعاون الأمني والعسكري ضد الإرهاب في إفريقيا، مشيرًا إلى أنّ العلاقات الاقتصادية بين البلدين دون مستوى المطلوب والإمكانات المتاحة لكنها تتقدّم، مشيراً إلى أنّ حجم التبادل التجاري بين البلدين بلغ 148 مليون دولار في 2020.
في نيجيريا، كانت المحطة الأخيرة للجولة الإفريقية، حيث أوضح الرئيس التركي أن بلاده تعمل على تعزيز التعاون مع نيجيريا، في مجالَي الدفاع العسكري والأمن، مشيرًا إلى توقيع البلدين عدة اتفاقيات تعاون في سبيل تعزيز العلاقات الثنائية.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أعلن أيضًا خلال اللقاء مع نظيره محمد بخاري أنّ حجم التبادل التجاري مع نيجيريا بلغ العام الماضي مليارَي دولار، مشيراً إلى سعي تركيا لتعزيز العلاقات بناءً على أسس الشراكة الاستراتيجية.
قراءة في الجولة
جولة أردوغان الأخيرة تأتي في سياق حرص أنقرة على التغلغل في المجال الإفريقي ووضع بصمة دبلوماسية مختلفة وفق سياسة خارجية متحركة متماهية مع التحولات الجيوسياسية، فتركيا تحاول منذ فترة الظهور كدولة ناشئة وصاعدة لا تُمثل تهديدًا كالصين أو كالقوى الأخرى التقليدية ذات النفوذ التاريخي والاستعماري.
الزيارة الأخيرة إلى كل من أنجولا وتوغو ونيجيريا تُكرس الخطاب الثالث الذي تسوّق إليه أنقرة طيلة العشرين عامًا الماضية ويحظى بقبول رسمي وشعبي في قارة أفريقيا، حيث بدأت تركيا استراتيجية الانفتاح والتوسع الخارجي المرن والنشط، خاصة بعد إغلاق أوروبا الأبواب في وجهها ورفض انضمامها إلى التكتل الغربي.
ما يُمكن الإشارة إليه أيضًا، هو أنّ هذه الجولة تأتي مغايرة تمامًا لسابقاتها من حيث المضمون والظرفية الإقليمية والعالمية، فعملية اختيار أردوغان لهذه الدول الثلاث، يعطي فكرة على التخطيط الاستراتيجي لأنقرة للفترة القادمة والتحوّل تدريجيًا نحو إعلان نفسها كقوة فاعلة قادرة على إعادة رسم خارطة توازنات جديدة.
البلدان التي زارها أردوغان تنتمي جغرافيًا إلى خليج غينيا الغني بالمعادن والموارد الطبيعية من نفط وغاز وهيدروكربونات، وهي مراكز نفوذ تاريخية لكل من البرتغال وبريطانيا وفرنسا، ومؤخرًا أصبحت في مرمى الروس بعد سلسلة اتفاقيات أبرمتها موسكو مع عدد من دول المنطقة عقب مؤتمر سوتشي لعام 2019 وكان أهمها عقد العملاق الروسي (Rosgeo) لاستكشاف النفط والغاز ومناجم المعادن في غينيا الاستوائية.
المعلوم أن خليج غينيا يستخدم بشكل مكثّف في التجارة البحرية الدولية، لأنّه مثابة بوّابة رئيسية للتجارة الخارجية بالنسبة لبلدان المنطقة، زاد من أهميته والمنطقة المحيطة به، ويكتسب بعد استراتيجي نظرًا لامتلاك سواحله احتياطات كبيرة من النفط والغاز الطبيعي، وهو ما جعله محور أنظار العالم.
في غضون ذلك، لئن تركزت جولة الرئيس التركي إلى البلدان الثلاث نسبيًا على التبادل الاقتصادي في مجال المواد الهيدروكربونية (نيجيريا)، والزراعة والصناعة (توغو)، إلاّ أنّ الأولوية كانت للمسائل المتعلقة بالأمن والاتفاقات الدفاعية وكذلك قضية تنظيم “غولن” على اعتبار أنّ الظرف الإقليمي ملائم للتغلغل والتسرب نحو هذه المنطقة.
الظاهر أنّ أنقرة حزمت أمرها هذه المرّة لاستثمار غياب الاستقرار الأمني والتهديدات التي يمثلها الإرهاب في دول الساحل وجنوب الصحراء، لإقامة شراكات استراتيجية مع هذه البلدان وتعزيز تواجدها في تلك المنطقة عسكريًا، وهو ما يعني أنّ تركيا تعمل على التخلص تدريجيًا من دبلوماسيتها المرنة لتصبح لاعبًا مغيرًّا لقواعد اللعبة السياسية في أفريقيا.
وهي خطوة منتظرة، فأنقرة تدخلت سابقًا في الخليج الغيني الواقع في الساحل الجنوبي الغربي لإفريقيا في المحيط الأطلسي، والمصنّف ضمن “أخطر المناطق” في النقل البحري الدولي، حين تم اختطاف بحارة أتراك قبالة السواحل النيجيرية في 2019، كما أجرت مجموعة المهام البحرية التركية “بربروس”، في 2014 زيارة إلى كلّ من السنغال، وغامبيا، ونيجيريا، وتوغو، والكاميرون والغابون، وقدّمت تدريبات أمنية في كل من غامبيا ونيجيريا.
هذا الفرضية تؤكّدها فحوى اللقاءات التي أجراها الرئيس التركي مع نظرائه في البلدان الثلاث والتي حملت في مجملها اتفاقات للتعاون في المجال الدفاعي بما فيها الطائرات المسيرة والمركبات المدرعة ومحاربة الإرهاب.
دبلوماسية نشطة
أصبحت زيارات أردوغان والمسؤولين الأتراك إلى إفريقيا أمرًا مألوفًا، فقد جرت العادة الدبلوماسية لأنقرة منذ عشرين سنة أنّ تكون القارة السمراء محور الاستراتيجية والدبلوماسية النشطة للأتراك لربط جسور نفوذهم الصاعد في أكثر من منطقة.
بنهاية هذه الجولة الجديدة في القارة، يكون الرئيس التركي قد زار أكثر من ثلاثين بلدًا أفريقيا منذ اعتلائه سدة الحكم في بلاده، وهو مؤشر جلي على الاهتمام الشامل الذي يوليه لهذه القارة، وعلى مساعي تركيا مقارعة نفوذ القوى الكبرى (الصين روسيا) وطموحاتها في التحكم في التوازنات الإقليمية في إفريقيا.
تاريخيًا، يعود الاهتمام التركي بالقارة الأفريقية إلى بدايات الألفية الثالثة، وتحديدًا مع إغلاق الاتحاد الأوروبي أبوابه ورفض انضمامها إلى التكتل، لتبدأ أنقرة في استراتيجيتها الجديدة وهي تطويق أوروبا في مراكز نفوذها التقليدي وضرب مصالحها خارج حدودها الجغرافية، وانطلقت من شرق إفريقيا (إثيوبيا والصومال) وصولًا إلى غربها.
وإلى جانب الأهداف السياسية، يحتل الاقتصاد مرتبة متقدمة جداً في أولويات تركيا في القارة السمراء، وترى فيها أسواقاً واعدة وبلاداً تتمتع بقوة بشرية مؤهلاً لأن تتحول إلى كنز اقتصادي في المستقبل، حيث تضم القارة السمراء 54 دولة يزيد عدد سكانها عن مليار نسمة، أكثر من 70٪ من سكانها شباب، وتتمتع باقتصاد سريع النمو، وموقع جغرافي يحمل أهمية اقتصادية، بالإضافة إلى قربها من منابع الطاقة وممرات نقلها.
لذلك، عملت تركيا على إنشاء عدد كبير من لجان الشراكة الاقتصادية مع إفريقيا، أبرزها مجالس عمل مستقلة مع 35 دولة إفريقية و”منتدى الاقتصاد والأعمال بين تركيا وإفريقيا”، واجتماعات لوزراء الزراعة والصحة وغيرها، ومؤتمر “وزاري تركي إفريقي”، إلى جانب “قمة الشراكة التركية الإفريقية”، لدعم شركات الأشغال العامة وتقديمها على أنها أرخص من منافستها الأوروبية والأعلى جودة من الصينية، وتوسيع انتشار خطوط ناقلتها الوطنية لتشمل 58 وجهة في إفريقيا، وفق التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية التركي محمد موش.
بفضل سياسة الانفتاح على القارة، ارتفع معدل التبادل التجاري بين تركيا ودول الاتحاد الإفريقي من 5.4 مليار دولار عام 2003 إلى 25.3 مليار دولار بحلول عام 2021، لكن الجانبين يعملان على إيصال هذا الرقم إلى 100 مليار دولار على المدى المتوسط.
صناعات دفاعية
كنتيجة طبيعية لتطور العلاقات السياسية والاقتصادية، بدأ التعاون بين تركيا والدول الإفريقية يتعزز بشكل لافت في السنوات الأخيرة في مجال الصناعات الدفاعية، فحديثاً كشفت مصادر مختلفة عن أن إثيوبيا والمغرب طلبتا شراء مسيرات تركية من طراز بيرقدار، وهما البلدان اللذان حصلا مؤخراً على العديد من الأنظمة الدفاعية التركية، كما أعلنت مالي وروندا حديثاً أنهما بصدد الحصول على أسلحة تركية مختلفة وتعزيز التعاون مع أنقرة في هذا الإطار.
وعلى الرغم من أن الكثير من الاتفاقيات الدفاعية وعقود بيع الأسلحة تبقى طي الكتمان ولا يعلن عنها بشكل رسمي، إلا أنه من المؤكد أن المغرب وإثيوبيا وتونس حصلوا حديثاً على أسلحة تركية مختلفة منها طائرات مسيرة، وكما تعتبر تركيا المورد الرئيسي للأسلحة للجيش الصومالي وقوات حكومة الوفاق في ليبيا، كما صدرت مئات العربات المدرعة إلى دول إفريقية مختلفة آخرها كينيا التي وقعت على شراء 120 مدرعة تركية من طراز “خضر”.
من المرجح أن تسفر زيارة أردوغان إلى أنغولا ونيجيريا (دولتان نفطيتان) عن اتفاقات بيع المعدات العسكرية والأسلحة كالفرقاطات والمصفحات والصواريخ وصولا إلى المسيرات أي طائرات الهجوم العسكري بدون طيار (Bayraktar TB2) التي تُعد فخر الصناعة العسكرية التركية.
المسيرة التركية أثبتت قدراتها القتالية العالية وأشرقت على الأرض في أربع جهات وهي: العراق ضد حزب العمال الكردستاني، وفي ليبيا حيث تم إيقاف هجوم المشير حفتر على طرابلس بفضل نجاعتها، وفي سوريا ضد قوات بشار الأسد النظامية وأخيرًا في حرب قره باغ الأخيرة بين أذربيجان وأرمينيا.
أنقرة ستعمل مستقبلًا على الاستثمار في تراجع الصناعة الفرنسية أمام نظيرتها الأمريكية الإسرائيلية وحتى تركيا خاصة في صناعة الطائرات بدون طيار، فقد تخلت باريس عن أول مشروع EuroMale الذي كان من المفترض أن يرى النور في عام 2008، إلاّ أنّه لم يولد إلا في عام 2014 تحت اسم EuroDrone.
قلب التوازنات
اكتساب الأتراك لمكانة سياسية واقتصادية وأخيرًا عسكرية في المجال الإفريقي، يعود بالأساس إلى قدرة أنقرة على قراءة التحوّلات في تلك المنطقة والتغيرات على مستوى موازين القوى، حيث استفادت بشكل كبير من تراجع اهتمام القوى الاستعمارية الغربية السابقة بالقارة السمراء ومن المكاسب المفاجئة كالثورات الشعبية والانقلابات التي خلطت أوراق بعض الدول الأوروبية التي تمتلك نفوذًا تقليديًا.
الأتراك سيُحاولون ملئ الفراغ الذي ستتركه القوة الفرنسية برخان بعد إعادة تشكيلها في دول الساحل وسيقومون بتقديم الدعم العسكري لهذه الدول، فمؤخرًا بدأ النفوذ التركي في مالي يسفر عن وجهه، ففي آب/أغسطس 2020، حيث كان وزير الخارجية التركي أول مسؤول أجنبي كبير يزور البلاد بعد الإطاحة بالرئيس إبراهيم بوبكر كيتا في انقلاب عسكري.
في الوقت الراهن، تقوم تركيا بتنويع دبلوماسيتها وتوسيع استثماراتها من أجل مد مجالات تدخلها ودعم نطاق نفوذها في دول الساحل وجنوب الصحراء، مستخدمة سياسة القوة الناعمة التي تطبقها بمهارة، مستغلة الروابط الثقافية والدينية وقدرتها على التحرك داخل فضاءات متأزمة دون خوف، وهي مرحلة تسبق التدخل المباشر للانخراط في دائرة الفعل العالمي لإعادة تشكيل التوازنات الدولية.
التغلغل التركي في إفريقيا أمر معقّد للغاية نظرًا للمصاعب والمنافسة التي تُواجهها أنقرة من الصين وفرنسا وروسيا الصاعدة حديثًا والساعية إلى استرجاع مكانتها، إلاّ أنّ أنقرة نجحت بشكل واضح في كسر الحواجز والعقبات بفضل استراتيجياتها المتنوعة ودبلوماسيتها المرنة، فأصبحت قوّة وازنة قادرة على تشكيل المشهد الجيوسياسي الجديد في القارة السمراء.