1

الصين: رجل الضريح ورجل النهضة

الاثنين – 10 شهر ربيع الثاني 1443 هـ – 15 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [15693]

غسان شربل رئيس تحرير «الشرق الأوسط»AA

واضح أن الظل الصيني يقلق أميركا بمسؤوليها وخبرائها ومهندسي مستقبلها. الحزب الشيوعي الصيني هو الاتحاد السوفياتي الجديد بالنسبة إلى كثير من الخبراء الأميركيين. تحاول أميركا القول إنه لا صحة لما يتردد عن غروب شمس الإدارة الأميركية في العالم. تقدم انسحاباتها من بعض المناطق بوصفها إعادة انتشار لزيادة الفاعلية. لا تتردد في إشاعة جو من الاختبارات من أوكرانيا والبحر الأسود وصولاً إلى تايوان ومحيطها للقول إن الدور الأميركي هو العمود الفقري للاستقرار. ما يجري في الصين يعقّد الصورة. شيء يشبه ولادة «إمبراطور» صاحب الكلمة الأولى والأخيرة. زعيم يقدم نفسه في صورة «حارس الحلم الصيني» ويعد بنقل بلاده إلى التقدم والبحبوحة والثراء فضلاً عن الهيبة والمنعة.
تحتاج الثورة إلى رجل فذ يفجرها ويقودها إلى الانتصار على أعدائها. تحتاج أيضاً إلى رجل استثنائي ينقذها من عبادة الفرد والحرف، ومن الرؤوس التي لا تجيد إلا الانحناء، والأيدي التي لا تتقن إلا التصفيق. كما تحتاج الثورة بعد ذلك إلى رجل ثالث يدمجها في قاموس العالم عبر نقلها من زمن الانتصار والأزياء القديمة إلى زمن الاستقرار في المؤسسات بحثاً عن التقدم والازدهار.
يمكن القول إن الصين محظوظة، فقد عثرت على الرجال الثلاثة. ماو تسي تونغ الذي قاد معركة الولادة. ودينغ هسياو بينغ الذي أنزل «الربان العظيم» إلى مستوى القائد الذي يخطئ. وشي جينبينغ الذي يعمّق موقع الصين في سباق التقدم العلمي والتكنولوجي والاقتصادي منذراً بتغيير الترتيب القديم في نادي الكبار. لم يطعن دينغ جثة ماو بالخناجر، لكنه منعه من إدارة البلاد من ضريحه وبأفكار مرحلة انطوت وانقضت. حفظ لقائد المسيرة هالته وتسميته ولكنه منعه من مغادرة ضريحه للتلاعب بالحزب أو الدولة. لم ترزق الثورة الروسية برجل ثانٍ ينقذها على غرار ما فعل دينغ في الصين. انقضاض خروشوف على جثة ستالين في المؤتمر العشرين لحزب لينين جاء في سياق آخر. وسيتكفل جمود عهد بريجنيف بمضاعفة فرص الانهيار على حساب فرص التغيير وظهور غورباتشوف.
نكتب عن الصين لأن الأيام الماضية لم تشهد فقط تأكيد اعتبار شي الرجل الثالث في المائة الأولى من عمر الحزب، بل وضعته في موقع موازٍ للرجل الأول. رجل قوي طوى صفحة فكرة «القيادة الجماعية» التي هندسها دينغ كي لا يسقط الحزب ومعه البلاد في قبضة رجل واحد. رجل قوي طوّع الدستور وباتت إقامته مفتوحة. ولأنه رئيس الدولة الأكبر سكانياً وصاحبة الاقتصاد الثاني والجيش الأكبر عدداً، ولأنه رئيس «مصنع العالم» فإن مصيره يعنينا.
لنفترض أن الأميركيين انتخبوا رئيساً لا تعجبك سياساته. من حقك أن تنزعج، لكن لا مبرر للحزن أو اليأس. أولاً لأن هذا الرئيس لا يمكن أن يقيم أكثر من ولايتين متتاليتين. وثانياً لأن سياسات الرئيس تخضع دائماً للتمحيص والمحاكمة من قبل الكونغرس، فضلاً عن الرقابة الصارمة من الإعلام، وخصوصاً قناصة وسائل التواصل الاجتماعي. يُضاف إلى ذلك أن ردهات القرار الأميركي معروفة ومكشوفة ويستطيع القاضي تقليب أسرارها. ببساطة يأتي الرئيس الأميركي ويذهب، في حين يأتي الرئيس الصيني ليقيم، ومثله الرجل الجالس على عرش لينين.
سياسات الرئيس الأميركي لا تؤثر في مصير الأميركيين وحدهم. إنها تعني كل سكان «القرية الكونية». آراء السفير الأميركي جزء من الوجبة اليومية في حياة الدول القريبة والبعيدة. لأميركا القوية ثمن، ولأميركا الضعيفة ثمن. وواضح أن العالم يعاني حين تقرر أميركا لعب دور الشرطي، ويعاني أكثر حين تتخلى عن هذا الدور مفسحة المجال لقوى إقليمية أن ترتكب مغامرات مكلفة بعد تغليف الأوهام في ثوب الأحلام. لكن العالم لا يعيش على توقيت واحد. روسيا الوافدة من الركام السوفياتي ملاكم مجروح يمارس سياسة هجومية محسوبة وسياسة عدوانية مموهة. وروسيا محظوظة لأن الرجل الذي أنقذها من الغرق وخطر التفكك تحول لاعباً استثنائياً لا يمكن تجاوزه في الشأن الدولي. والغريب أن ثقل ترسانة روسيا وسياستها أكبر بكثير من الحجم الفعلي لاقتصادها.
تستحق الولايات المتحدة حتى الآن صفة اللاعب الأكبر، لكن لا يمكن وصفها باللاعب الوحيد. حجز اللاعب الروسي مقعده، وها هو اللاعب الصيني يتقدم للإخلال بقواعد اللعبة. وإذا كان فلاديمير بوتين أطلّ على العالم عشية القرن، فإن إطلالة شي جينبينغ جاءت في العقد الثاني من القرن الحالي. في 2012 انتخب شي أميناً عاماً للحزب الشيوعي الصيني وسيتولى الرئاسة في العام التالي. وشاءت الصدف أن يتزامن جلوس شي على كرسي ماو مع عودة بوتين إلى الكرملين بعد لعبة غياب دامت 4 أعوام. في 2008 رفض بوتين المهتم بالاستمرار في طمأنة الغرب تعديل الدستور لتمديد إقامته في الكرملين. اختار رفيقه ميدفيديف للرئاسة، وارتضى الجلوس مكانه في رئاسة الحكومة 4 أعوام يعود بعدها إلى قصر الرئاسة.
بالنسبة إلى أميركا، التحدي الصيني أوسع وأشمل وأخطر. لا يغير من جوهر الأمر حوار عن بُعد بين بايدن وشي، أو بيان يعد بالتعاون في مواجهة التغير المناخي. ليس من الضروري أن نكون في الطريق إلى «العصر الصيني»، لكن الأكيد أن شي يحمل مشروعاً كبيراً لبلاده سيؤدي نجاحه إلى تعديل في موازين القوى يتخطى المسرح الآسيوي. واضح أن الصين ضاعفت رهانها على من بات لقبه «قائد النهضة الصينية». وأغلب الظن أن ماو الممدد في ضريحه سيشعر بالغيرة. فكرُ شي يُدرّس الآن في المدارس، في حين يبدو «الكتاب الأحمر» كرواية قديمة مثقلة بعقاقير انتهت مدة صلاحيتها.

التعليقات معطلة.