الإعلام القوي… والمجتمع الضعيف
الاثنين – 10 شهر ربيع الثاني 1443 هـ – 15 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [15693]
هل يمكن أن تمتلك دولة ما منظومة إعلامية قوية مؤثرة قادرة على مساندة سياستها الخارجية، وتعزيز صورتها الذهنية، في وقت تعاني فيه من ضعف جوهري في مجتمعها، وتهافت في قدراتها المؤسسية؟
الإجابة: نعم.
وهل يمكن أن تنطوي دولة ما على مجتمع متماسك قادر على تلبية الاستحقاقات الوطنية، من خلال مؤسسات فعالة راسخة، في وقت تعاني من ضعف منظومتها الإعلامية؟
الإجابة: نعم، أيضاً.
لن يتطلب الأمر لإثبات صحة الإجابتين السابقتين سوى استعراض الأوضاع الإعلامية والمجتمعية والمؤسسية في بعض الدول الاسكندنافية على سبيل المثال، لنرى كيف تتفوق قدرة المجتمعات على قدرة المنظومات الإعلامية الوطنية التي تقف عاجزة عن صد التدفق الإخباري والبرامجي الخارجي، وهو أمر يحدث أيضاً في مجتمعات مزدهرة في دول مثل كندا واليابان.
وفي المقابل، ستبرز أمثلة أخرى واضحة للغاية عن بعض الدول التي تفتقد مجتمعاتها الحد الأدنى من شروط الاكتمال والفاعلية، في ظل تراجع النهج المؤسسي، والارتهان التام لإرادة السلطة التنفيذية، بينما تمتلك في الوقت ذاته منظومات إعلامية فائقة التأثير والنفاذ.
لقد تغيّرت البيئة الاتصالية العالمية تغيراً جوهرياً، وباتت أكثر قدرة على استيعاب أنماط الإنتاج والتأثير الإعلامية العابرة للحدود، في ظل تراجع فاعلية السيادة الوطنية على المجال الإعلامي، وذوبان الحدود والفوارق في مجال التعرض للمنتج الإعلامي.
وبسبب هذا التغير، بات بإمكان بعض الدول أن تعالج ما يعتري قوتها الشاملة من تراجع لأسباب هيكلية تتعلق بأوضاعها الديموغرافية أو تضاؤل كتلتها الحيوية على سبيل المثال، عبر تركيز جهودها في صناعة منظومة إعلامية قادرة نافذة، بما يساعدها على إحداث قدر من التوازن مع جيرانها أو خصومها، وبما يعزز صورتها الدولية. ولكي تنجح تلك الدول في مسعاها الهادف إلى رتق عوارها المجتمعي والمؤسسي بفائض قدراتها الإعلامية، فإنها تتبع خطة إعلامية سياسية من ثلاث خطوات رئيسية.
وأولى هذه الخطوات تتمثل في حشد قدر كبير من الموارد والجهود من أجل تطوير منصات إعلامية تتمتع بأعلى قدر من الجاذبية، عبر توفير الإمكانيات التقنية والبشرية الأكثر تنافسية في القطاع. وعندما تنجح تلك الدول في امتلاك هذه الإمكانيات، فإنها تكون قد ضمنت التمركز في الخريطة الإعلامية الإقليمية والدولية، بما يُمكّنها من التأثير في قطاعات من الجمهور العالمي أو الإقليمي، بالشكل الذي يخدم رؤيتها ومصالحها السياسية، ويُشكل ضغوطاً على خصومها وأعدائها، ويعزز قدرتها على مساندة حلفائها.
أما ثانية تلك الخطوات، فتتعلق بصياغة دوائر التركيز التحريري لتلك المنظومة الإعلامية الجذابة، بحيث تركز على الموضوعات الخارجية والقضايا الدولية، بشكل يسحب الاهتمام تماماً عن أوضاع الداخل وهمومه وانشغالاته. وبسبب هذ التركيز المغرض على القضايا الخارجية، ينصرف المجتمع المحلي في تلك الدول عن مناقشة الانشغالات الوطنية، ويترسخ في وعيه العمومي أن المشكلات التي يواجهها لا تتعلق بتهافته أو افتقاده النهج المؤسسي، أو عدم امتلاكه آليات للمشاركة والمساءلة، وإخضاع الأداء الرسمي للتقييم، وإنما تتعلق تلك المشكلات بقضايا خارجية ذات أبعاد آيديولوجية، أو بمنافسين وأعداء لا يحترمون القواعد الدولية وحقوق الإنسان.
وتتمثل الخطوة الثالثة في طريق صناعة إعلام قوي في دولة تنطوي على مجتمع هش ومؤسسات ضعيفة، في تحويل الأدوات الإعلامية الجذابة النافذة إلى أسلحة قتال في المعارك السياسية والدبلوماسية. وفي هذا الصدد، يتم تسخير المنظومة الإعلامية الوطنية لكي تصبح منابر للهجوم ودروعاً للدفاع في معارك تلك الدولة مع غيرها من الدول أو المنظمات المعادية. ويؤدي ذلك إلى تحويل المنظومة الإعلامية الوطنية إلى أذرع دعاية مباشرة، وأدوات علاقات عامة، أو منابر للتحدث باسم السلطة التنفيذية، مع ما يستتبعه هذا من فقدان دورها الأهم، بصفتها مصدر اعتماد للجمهور فيما يخص الأخبار والمعلومات والتحليلات التي تتعلق بأولوياته، خصوصاً ما يتصل منها بالشؤون المحلية.
وفي المقابل، فإن بعض الدول التي تنطوي على مجتمعات ثرية متماسكة، واعية لقضاياها، مدركة للتحديات المفروضة عليها، تخفق في كثير من الأحيان في تطوير منظومات إعلامية تتحلى بالقدرة والكفاءة، وهو أمر يخصم بالتأكيد من قوتها الشاملة، ويعزز قابليتها للاختراق الإعلامي والتأثر بالرسائل المضادة.
فأما الدول التي تعوّض تهافتها المجتمعي والمؤسسي بالاستثمار في أذرعها الإعلامية لاستهداف الخارج، فإنها ستكتشف مع الزمن أن الإعلام لا يُعوض السياسة. وأما الدول التي تنطوي على قدرات مجتمعية ومؤسسية مُعتبرة، وتخفق في تعزيز منظوماتها الإعلامية الوطنية، فعليها الانتباه لأن ثمن هذا الإخفاق فادح.