كل هذه الجرائم في العراق
ولاء سعيد السامرائي
11 ديسمبر 2021
استذكر ثوار تشرين ومعهم غالبية العراقيين، في السادس من ديسمبر/ كانون الأول الحالي، الذكرى الثانية لمجزرة كراج السنك التي اقترفتها مليشيات بحق المتظاهرين السلميين، إذ هجمت هذه ليلاً بكيفيةٍ مرعبة على الشباب في الطوابق المختلفة وهم نيام، فقتلت 27 منهم بمختلف أدوات القتل المسلحة والبيضاء ذبحاً، ورمياً من الطابق السادس، وقتلاً بالرصاص، وأجبرت بقوة الأسلحة التي تحملها 150 من الشباب العزّل على الهبوط من الطوابق العليا، لتنقلهم جميعهم، ما عدا خمسة لم تجد مكاناً لهم، في عربات مخصّصة تحملهم إلى السجون السرية التابعة لها في ضواحي بغداد. هذه المجزرة التي اقترفتها المليشيات الولائية، كما توصَف، بالتنسيق مع القوات الحكومية التي كانت تتفرّج، كما وثّقها بالصوت والصورة الثوار، واحدة من المجازر، وكذلك عملية الاختطاف القسري لأولئك العراقيين، خلال ثورة تشرين، إنما تم ارتكابهما بغرض قمع الثورة ومنع الشباب من ترديد هتاف “إيران برّة برّة بغداد تبقى حرّة”. هذا الهتاف الذي صدحت به حناجر المتظاهرين، ومزّق صورة الاحتلال الإيراني في ساحة التحرير في بغداد، انتقل صداه عالياً في سماء العراق من بغداد إلى الناصرية والبصرة وكربلاء والنجف، من دون أن يتمكّن أيٌّ من الأحزاب من إيقافه، لا مقتدى الصدر ولا رئيس الوزراء المستقيل، عادل عبد المهدي. هذه الجرائم الموثقة والموجودة فيديوهاتها وشهودها تضاف إليها مجزرة جسر الزيتون في الناصرية التي قتلت فيها القوات الحكومية 80 شاباً وشابة، وقتل أكثر من 884 شاباً وشابة، وجرح تسعة وعشرون ألفاً منهم في ساحة التحرير، لم تجد أياً منها طريقها إلى المحاكم، على الرغم من رفع عوائل الشباب دعاوى ضد قتلة أبنائهم، وخصوصاً في مدينة الناصرية، ولم يكلّف رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، نفسه بالوفاء بأيٍّ من وعوده التي قطعها لعوائل الشهداء بعد تعيينه بتقديم قتلة أبنائهم وإحالتهم إلى القضاء كما وعد، ولا حتى بالتحقيق في الاغتيالات المستمرّة والمجازر والتهجير القسري أخيراً في قرية بحر الإمام ومجزرة المقدادية التي لم تنقطع!
أن توثّق منظمات دولية وإنسانية الجرائم بحق المدنيين والعزّل والنساء والأطفال والأبرياء عمل كبير جداً، وليس عملاً بسيطاً
نشرت منظمة هيومن رايتس ووتش تقريراً عن بعض الجرائم التي تحصل في العراق منذ سنوات حتى 2020، وتشير، بوضوح، إلى الجرائم التي اقترفت خلال تظاهرات ثورة تشرين، وإلى جرائم التطهير العرقي والطائفي، وإلى المقابر الجماعية التي تمارسها المليشيات، ومعها قوات الحشد الشعبي، وتواطؤ القوات الحكومية في القتل والإخفاء القسري والتهجير للعراقيين في المناطق الغربية، كالفلوجة والأنبار والموصل وكذلك كركوك، حيث تقترف قوات “الأسايش”، وهي مخابرات أربيل الكردية، جرائم مشابهة لما يجري في باقي مناطق العراق. وتشير المنظمة الحقوقية إلى فقدان بين 250 ألف شخص ومليون، وإلى اكتشاف مقبرة جماعية قرب الفلوجة لرفاة 600 شخص. وتتجاوز الأعداد الحقيقية آلافاً من مختطفين ومغتالين ومهجّرين، بدليل أعداد معسكرات اللجوء والسجناء، بوشاية المخبر السرّي، والتهجير والتطهير العرقي، التي توثقها “هيومن رايتس ووتش”.
أن توثّق منظمات دولية وإنسانية الجرائم بحق المدنيين والعزّل والنساء والأطفال والأبرياء عمل كبير جداً، وليس عملاً بسيطاً يتطلب جهوداً كثيرة، ومفاوضات مع الحكومات والمؤسسات الحكومية والمسؤولين فيها. وعلى الرغم مما قدّمته “هيومن رايتس ووتش” عمّا يحدث في العراق من تقارير موثقة، إلا أنها اليوم لا تتعدّى كونها تقارير أممية موضوعة على الرف، مع تقارير ووثائق عديدة تدين القتلة والمجرمين، ليس أكثر؟
المحاكم التي يتم إنشاؤها من أجل الحكم على الجرائم ضد الإنسانية خاصة جداً واستثنائية، تخضع لتشريعات المحكمة العسكرية الدولية
ما حصلت عليه المنظمة الدولية منذ غزو العراق في عام 2003 يشكّل أدلة أساسية وإثباتات مهمة لإدانة المجرمين قانونياً من المحاكم، وخصوصاً الدولية منها، لإيقاف نزيف الدماء، وكل نتائجها الكارثية على الشعب العراقي وحياة الملايين منه. هل هناك أكثر من هذه الأدلة الموثقة لكي تتخذ الإجراءات اللازمة ضد مليشيات الإبادة الجماعية؟ لقد حكمت محكمة ألمانية في فرانكفورت قبل أيام على عراقي بالسجن المؤبد، وعلى زوجته الألمانية بالسجن عشر سنوات، بتهمة اقتراف جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية، لأنه، كما تقول الرواية، ترك طفلة زوجته الإيزيدية التي “اشتراها”، وعمرها خمس سنوات، تموت تحت الشمس عام 2015. فما بال المحاكم المهتمة بإحقاق الحقوق والبحث عن الجناة وإنزال العقاب بهم وبحق في الجرائم التي اقترفوها تتجاهل إذن العدد الهائل والمستمر من الجرائم التي تُقترف في العراق يومياً وبأعداد مخيفة ومرعبة من القتلى وجرائم أخرى، تمثل حقاً جرائم إبادة وجرائم حرب؟ لماذا لم تقدّم هذه المحكمة الألمانية أو غيرها من محاكم أوروبية أو أميركية قادة وعناصر من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عاثوا في العراق فساداً بحسب الإعلام الغربي وقادته، وجنرالات الاحتلال وحلف شمال الأطلسي، وتُنزل بهم العقاب، بدلاً من إعادة الحكومة التركية 8585 منهم إلى بلدانهم الأوروبية التي جاءوا منها، أو تخصيص القيادة العسكرية الأميركية باب خروج لهم للهروب إلى سورية في معركة الموصل في عام 2017؟ هل الحكم الذي أصدرته محكمة فرانكفورت هو حقاً من أجل إحقاق العدالة وإنصاف الإيزيدية؟ المحاكم التي يتم إنشاؤها من أجل الحكم على الجرائم ضد الإنسانية خاصة جداً واستثنائية، تخضع لتشريعات المحكمة العسكرية الدولية، وقد أنشأتها أول مرة، بقرارات أممية بعد الحرب العالمية الثانية، الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفييتي وأيرلندا الشمالية والحكومة الفرنسية المؤقتة، لمحاكمة 24 قائداً عسكرياً من كبار قادة الجيش الألماني بتهم: التآمر وجرائم ضد السلام وجرائم حرب، وجديدها المفهوم الجديد الذي عرف بمفهوم الجرائم ضد الإنسانية الذي أضيف بهذه المناسبة.
الغريب أن المحكمة تجاهلت كل الجرائم والتدمير الذي حصل، كما تقول سلطة الاحتلال الأطلسي في الموصل والمناطق الغربية، وحكمت على شخص واحد فقط، أصله يظهر من اسمه المعلن، الجميلي، إحدى أكبر عشائر مدينة الفلوجة، قلعة المقاومة العراقية، والتي تسكنها غالبية من مكون معين، اتهم بجريمة إبادة لتأكيد اتهام لغالبية سكان العراق بتهمة التنظيم الإرهابي داعش.