1

`”بلاد” العُميان

في ديسمبر 17, 2021

أ.د/ شريف سلامة

دكتوراه في القانون الدستوري

هناك مقولة شهيرة تقول “في بلد العُميان يصير الأعور ملكًا”، وترتبط تلك المقولة بواحدة من أشهر القصص القصيرة في الأدب الإنجليزي وهي قصة “بلد العُميان”، للمؤلف البريطاني الشهير “هربرت ويلز”، والذي يعتبر من مؤسسي أدب الخيال العلمي، واكتسب شهرته بفضل رواياته التي تنتمي لذاك الصنف الأدبي.

وتحكي القصة عن مجموعة من المهاجرين من دولة “بيرو” فروا من طغيان الإسبان، حيث كانت “بيرو”، والتي تقع في غرب أمريكا الجنوبية، خاضعة للحكم الإسباني في تلك الحقبة التي دارت خلالها أحداث القصة.

وخلال فرار هؤلاء المهاجرين حدثت انهيارات صخرية في جبال “الإنديز”، وهي سلسلة جبلية واسعة ممتدة على طول الساحل الغربي لأمريكا الجنوبية، فحبست هؤلاء القوم في وادٍ معزول، وفي وقت قصير انتشر بينهم نوع غامض من “التهاب العيون”، لم يكن له سبب واضح، ولكنهم فسروا ذلك بانتشار الخطايا بينهم.

ودار ذلك المرض الغامض دورته، وكان البصر يخفت بينهم تدريجياً، إلى حد أنهم لم يلحظوا فقدانه، وأصاب الجميع “العمي”، ثم ورثوا أبناءهم العمي جيلا بعد جيل، إلى أن أتى عليهم زمن لم يكن فيه مبصر واحد، وأصبحت كلمة “الإبصار”، وكل ما يتعلق بها من كلمات تصف ما تراه العين، بعيدة تمام البعد عن قاموس هؤلاء الناس، ولا يعرفون لها أي معنى، وأصبح واديهم المعزول والبعيد عن عالم البشر هو الكون بأسره بالنسبة إليهم، ولا شيء سواه.

وتستمر أحداث القصة إلى أن ظهر مجموعة من البريطانين قرروا تسلق جبال “الإنديز”، ومنهم بطل القصة شخص يدعى “نيونز”، وهو مستكشف وخبير في تسلق الجبال، وفي الليل انزلقت قدمه فسقط من أعلي، وكان هذا السقوط لمسافة شاسعة بحيث لم يستطع أقرانه رؤية المكان الذي سقط فيه، ولم يدركو أنه وادي “العُميان”.

لكن “نيونز” لم يمت؛ حيث سقط فوق وسادة ثلجية حفظت حياته. وعندما بدأ المشي علي قدمين متألمتين رأي البيوت التي تملأ الوادي. لاحظ أن ألوانها فاقعة متعددة بشكل غريب ولم تكن لها نوافذ .. هنا خطر له أن من بني هذه البيوت أعمي كخفاش.

راح يصرخ وينادي الناس لكنهم لم ينظروا نحوه .. هنا تأكد أنهم “عُميان” بالفعل.

وأمام ذلك الوضع المريب والغامض، لم يكن أمام “نيونز” سوى أن يشرح لهؤلاء القوم من أين جاء، ثم أوضح لهم أنه جاء من مكان يتواجد فيه أناس يبصرون، ولكن هنا ظهرت مشكلة … ما معني ( يبصرون) ؟.

لقد مر علي العميان خمسة عشر جيلا، وبالتالي صار عالم البشر بالنسبة إليهم هو الأقرب إلي الأساطير، لذلك قام سكان الوادي يتحسسون وجه “نيونز” ويغرسون أصابعهم في عينه .. حيث بدت لهم وكأنها عضو غريب، ورغم محاولات “نيونز” إقناعهم بأنهم عُميان، وبأن هناك نعمة تسمى البصر يفتقدونها، إلا لم يصدقوه واعتبروه مجنوناً.

هنا يتيقن “نيونز” أنهم يعيشون حياتهم في ظلام دامس، وأنه بالفعل في “بلد العُميان” التي كان يسمع عنها على أنها أسطورة من الأساطير، ويتذكر مقولة “الأعور يصبح ملكاً في بلد العميان”، فيظن أن بإمكانه أن يجد مكاناً له هنا؛ لأنه الوحيد المبصر بينهم، وأنه قد بلغ المكان الذي سيكون فيه ملكاً، وسوف يسود هؤلاء القوم بسهولة تامة.

لذلك قرر “نيونز” أن يعرفهم أهمية البصر … رأي شخص يدعى “بدرو” قادماً من بعيد فقال لهم : “بدرو سيكون هنا حالاً … أنتم لا تسمعونه ولا تشمون رائحته لكني أراه.”، وهنا بدا عليهم الشك وراحوا ينتظرون … ولكن لسبب ما قرر “بدرو” أن يغير مساره ويبتعد !. راح يحكي لهم عن جمال الجبال والغروب والشمس..  وهم يصغون له باسمين ولا يصدقون حرفاً مما يقول.

وهنا أدرك “نيونز” أن الأمر لم يكن بالسهولة التي كان يتوقعها، لذلك فقد حاول الهرب،  لكنهم لحقوا به بطريقة العميان المخيفة .. كانوا يصغون ويتشممون الهواء ويغلقون دائرة من حوله. إنهم يعرفون كل شيء بآذانهم .. يعرفون متي مشي علي العشب أو الصخور … كانوا كذلك يستعملون أنوفهم ببراعة تامة ..

وهكذا بعد الفرار ليوم كامل في البرد والجوع وجد نفسه يعود لهم ويعتذر قائلاً: “أعترف بأنني غير ناضج .. لا يوجد شيء اسمه البصر”.

كانوا طيبي القلب وصفحوا عنه بسرعة، فقط قاموا بجلده ثم كلفوه ببعض الأعمال.

وفي هذا الوقت بدأ يميل لفتاة وجدها جميلة، لكن العُميان لم يكونوا يحبونها لأن وجهها حاد بلا منحنيات ناعمة وصوتها عالٍ وأهدابها طويلة، أي أنها تخالف فكرتهم عن الجمال.

وتقدم “نيونز” لخطبتها، ولكن لم يقبل أبوها، لأنه كانوا يعتبرونه أقل من مستوي البشر .. فهو في نظرهم واحد من “المجاذيب” .. لكن الفتاة كانت تميل لـ”نيونز” بالفعل، ووجد الأب نفسه في مشكلة هل يقبل به أم يرفضه ويتركها بلا زواج؟!

لذلك طلب الأب رأي الحكماء، وكان رأي الحكماء قاطعاً .. الفتي عنده شيئان غريبان منتفخان يسميهما ( العينين ) .. جفناه يتحركان وعليهما أهداب، وهذا العضو المريض قد أتلف مخه، لابد من إزالة هذا العضو الغريب ليسترد الفتي عقله، وبالتالي يمكنه أن يتزوج الفتاة.

لكنه يرفض، ويصف لحبيبته المتع والجمال اللذين يراهما بعينيه، ولكنها أكدت له إنها تحب خياله (!!)، وأخذت تبكي وتتوسل إليه أن يقبل، وأنه يجب أن يضحي إذا كان يحبها.

يقبل الفتى الخضوع لعملية استئصال عينيه.. هكذا صار العمى شرطاً حتى يرتقي ويقبل به المجتمع ويصبح مواطناً كاملاً يستطيع أن يحيا حياة طبيعية مثل الباقين، فهم لم يكتفوا بكونهم عمياناً ولم يصدقوا كلامه عن البصر، بل اشترطوا أن يصبح مثلهم حتى يعتبروه مواطناً كاملاً، إما ذلك وإما يُحرم من الفتاة التي أحبها والتي هي بدورها وإن كانت لا تسخر من قصصه مثلهم، ولكنها في قرارة نفسها تعلم أنه مريض وأن ما يقوله ليس سوى قصص من صنع خياله.

وفي اليوم الأخير قبل إجراء العملية خرج ليرى العالم للمرة الأخيرة، ولما رأى الفجر يغمر الوادي بألوانه الساحرة، شعر أنه سوف يرتكب جريمة في حق نفسه.. ما الذي أنتوي أن أفعله؟ كيف أقبل أن أكون أعمى وأضحي بحاسة البصر؟ كيف ولماذا أقنعوني أن البصر شيء لا قيمة له برغم أن هذا خطأ؟.

وبعد تفكير خالطه حيرة، اتخذ “نيونز” قراره بأن يتسلق الجبال ويهرب، أخذ يتسلق بكل قوة وتصميم على الهروب، وحين غربت الشمس كان قد بعد جداً عن بلد العُميان، ثم أخذ ينظر إلى النجوم وهو يبتسم.

والحقيقة، أنني لم أقصد سرد أحداث قصة يرجع تاريخ تأليفها إلى العام 1904، ولكن دفعني إلى عرضها ما استشعرته فيها من إسقاطات سياسية ورموز واقعية، ولست عالما ما إذا كان الكاتب قد قصدها أم كانت من قبيل الصدفة.

وعلى سبيل المثال، رأيت أن “العمى” الوارد في القصة الذي أصاب هؤلاء المهاجرين، لم يكن العمى بالمفهوم العضوي، وهو فقد حاسة البصر، وإنما “العمى” كان يرمز إلى ما يصيب الإنسان في “بصيرته” وفي “قدرته على التفكير”، أي “عمى” البصيرة والعقل.

أما “الالتهاب” الغامض الذي أصاب العيون وتسبب في فقدها البصر، فرأيته يرمز إلى الأفكار والمعتقدات والأخبار الزائفة التي تُبِثها إلينا وسائل الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي من خلال من يقف وراؤها، والتي تقود عقول الناس وتوجهها -دون وعي أو إدراك- إلى مفاهيم وحقائق مغلوطة، وتفقدهم بصيرتهم، وقدرتهم على التفكير.

أما ذلك “الفتى” بطل الرواية، فرأيته يرمز إلى كل شخص يحاول أن يواجه هؤلاء “العُميان” بواقعهم، ويسعى إلى إبصارهم بأن هناك حياة أخرى أجمل كثيراً من تلك الحياة المظلمة التي يعيشون فيها، ورغم هدفه النبيل، راودته نفسه البشرية في أن يكون ملكاً على هؤلاء “العُميان” مستغلاً عجزهم.

أما طبيعة عمل بطل الرواية، والذي كان يعمل “مستكشفا وخبيرا في تسلق الجبال”، فقد رأيت ذلك إشارة إلى ما قد يلقاه كل طامح لتغيير الواقع من صعاب؛ فالمنحدرات الجبلية دائما ما يصعب تسلقها، و”قمتها” تشير إلى ما قد يصل إليه إذا ما اجتاز تلك الصعاب.

أما “الفتاة الجميلة”، فرأيتها ترمز إلى السكون الناتج عن الاستسلام والخضوع، وحتى تنعم بذلك السكون الوهمي عليك أن تصير “أعمى” مثل الباقيين، فإما أن ترتضي الهوان وتصبح مستسلماً خاضعا للواقع الذي تعيش فيه، أو أن تستمر في طريقك متسلقا الصعاب، باحثا عن أقوام أخرى على آمل أن يستجيبون لما تقول.

وإذا ما طبقنا كل ذلك على مجتمعاتنا العربية، سوف نجد مجتمعات تفقد أفرادها بصيرتهم وقدرتهم على التفكير، واحد تلو واحد، وجيل بعد جيل، بسبب ذلك المرض الذي ينتشر بينهم من خلال ما تبثه وسائل الإعلام الغربية، بطريق مباشر أو غير مباشر، وانصياعهم إلى أفكار ومباديء لا تتناسب مطلقا مع أفكارنا ومبادئنا.

ولعلنا نري كيف سيطر الغرب على مجتماعتنا العربية؟! وكيف تمكنوا من نشر أفكارهم ومعتقداتهم المسمومة بين شعوبها؟! وكيف يتم تشويه كل رمز وقدوة، وكيف صار لاعب الكرة والممثل والمغني رموزا وقدوات؟ وكيف أصبحت الملابس الغربية “المهلهلة” موضة؟! وكيف صارت مباديء الدين رجعية؟ وكيف حدثت أمور كثيرة كنا نحسبها بغيضة ولكنها صارت معيارا للتقدم في نظر الكثيرين؟!.

لقد تمكن الغرب من إقناع مجتمعاتنا بأنهم يسعون إلى نشر السلام والأمن ويدافعون عن الحريات واستقلال الشعوب، رغم جرائمهم التي يشهد عليها تاريخهم الأسود.

لك أن تتخيل أن الدول التي حرقت أوطانا واستعمرت بلدانا وسلبت مقدرات وخيرات شعوب، وصنعت “المفاعلات النووية غير السلمية” واستخدمت القنابل النووية في إبادة أُناس سلميين، وافتعلت الحروب التي راح ضحيتها ملايين البشر دون رحمة على مر التاريخ، وسعوا في الأرض فسادا، لك أن تتخيل أن هناك من يرونهم دعاة سلام للبشرية.

بل عليك أن تنسى كل ذلك، وأن تتغزل في قيام أحد مواطنيهم بإيقاف سيارته حتى يعبر “حيوان” الطريق، وأن تفتخر بأن أحدهم ذهب ليواسي طفلاً جائعاً في إحدى الدول الفقيرة، التي هم من تسببوا بجشعهم في إفقارها.

لك أن تتخيل أن الدول التي فرقت بين البشر دون رحمة أو إنسانسة، بسبب ألوان بشرتهم، وظلت لزمن طويل تصنف أصحاب البشرة السوداء على أنهم “عبيد”، لك أن تتخيل أن هناك من يرونهم دعاة للمساواة بين الناس.

لك أن تتخيل أن الدول التي كانت في القرون الوسطى ترى أن المرأة هي رمز “النجاسة”، وحرمتها ﻣﻦ الظهور ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ، وأذاقتها ﻛﺎﺳﺎﺕ الذل ﻭﺍﻟﻬﻮﺍﻥ، لدرجة أن شاعت بهم ﻋﺎﺩﺓ “ﺃﻗﻔﺎﻝ ﺍﻟﻌﻔﺔ”، ﻭﻫﻲ ﺃﻗﻔﺎﻝ ﻣﻦ حديد، ﺭُﻛبت ﻓﻲ ﺃﺣﺰﻣﺔ، وخصصت ﻟﺘﻠﺒﺴﻬﺎ النساء ﺣﻮﻝ ﺧﺼﻮﺭﻫﻦ، ﺇﺫﺍ ﻏﺎﺏ ﻋﻨﻬﻦ ﺃﺯﻭﺍﺟﻬﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻔﺮ، ﺛم ﺗُﻐﻠﻖ ﺑﻤﻔﺎﺗﻴﺢ، ﻳُﺒﻘﻴﻬﺎ ﺍﻟﺰﻭﺝ ﻣﻌﻪ، ﻻ ﺗﻔﺎﺭﻗﻪ ﻟﺤظة،

ﺑﻞ ﻭﺻﻞ ﺍﻷﻣﺮ ﻓﻲ بعض ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ الأوروبية، ﺇﻟﻰ ﺩﺭﺟﺔ ﻭﺿﻊ “ﻗﻔﻞ” ﻋﻠﻰ فم ﺍﻟﻤﺮﺃﺓ، ﺗﻐدﻭ ﺑﻪ ﻭﺗﺮﻭﺡ، وقد ﻛﺎﻥ ﻳﻮﺿﻊ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﻮﻉ ﻣﻦ ﺍﻷﻗﻔﺎﻝ عند ﺧﺮﻭﺝ ﺍﻟﻤﺮﺃﺓ من ﺩﺍﺭﻫﺎ، ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳدﻭﺭ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻟﺮﺟﺎﻝ حديث، ﺗﻐﻮﻳﻬﻢ ﺑﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺮﺫﻳﻠﺔ، لك أن تتخيل أن هناك من يرونهم دعاة حقوق المرأة.

والكارثة ليست في أن تقبل وتصدق الأمور السابقة وغيرها الكثير، بل الكارثة الأكبر أن عليك أن تقبل وتصدق أن شعوبنا هم دعاة حروب وفتنة وتشدد، وأن الدعوة الى التسامح والإخاء والمساواة التي يحث عليها الدين الإسلامي وبقية الأديان السماوية، هي دعوة منكرة لحقوق الإنسان، ذلك الإنسان الذي سفك هؤلاء القتلة دمه واستباحوا عرضه وشرفه واغتصبوا حقوقه على مدار التاريخ.

لقد تمكنت الدول الغربية من خلال ما ينشرون من أفكار ومعتقدات وأخبار مضلة ومضللة، من سلب بصيرة الناس وإيقاف عقولهم عن التفكير، وجعلهم خاضعين منصاعين لأفكارهم وتوجهاتهم، أمامهم الحق ولا يرونه ولا يحاولون أن يتفكروا فيما يدور حولهم .. ببساطة، تحولوا إلى “دمى” بشرية، إلى أناس أصابهم عمى البصيرة والتفكير.

فيا أهلنا وشعوبنا ويا ولاة الأمر، أفيقوا قبل فوات الآوان، حافظوا على القدر اليسير الباقي من البصيرة والعقل، علموا أولادكم أن يعتصموا بحبل الله جميعا ولا يتفرقوا، علموهم عدم الإنصياع الأعمي وراء الأفكار الغربية والمعتقدات المسمومة التي يحاولون تثبيتها في أذهانهم، علموهم أن هؤلاء أغتصبوا حقوقنا واستعمروا أوطاننا، ويسعون دائما إلى طمس الحقائق وتحريف التاريخ والعبث بالواقع والقضاء على المستقبل، علموهم أن يتفكروا ويفكروا وأن يُعملوا عقولهم، علموهم أن يتعلموا وأن يعملوا وألا يضيعوا أوقاتهم في أمور تافهة، علموهم أن أوطانهم لن يبنيها غيرهم.

علموهم ألا يكونوا “عُميان”، حتى لا تتحول بلادنا إلى “بلاد العُميان”.

وللحديث بقية…

التعليقات معطلة.