مذكرات ساسة العراق بعد 2003 ومحاولة تزوير التاريخ
إياد العنبر19 ديسمبر 2021
لا تستهويني كثيراً كتب المذكرات الشخصية، إلا إذا كانت لغرض البحث عن معلومةٍ معيّنة وفي فترة تاريخية محددة. لكنَّ مذكرات القادة الذين نهضوا ببلدانهم وانتشلوها من ركام التخلّف والفقر وأوصلوها إلى مصاف الدول المتقدمة وأصحاب التجارب الناجحة في تحقيق التنمية، باتت تفرض نفسها على الباحثين عن حلول لأزمات بلدانهم التي تعاني مِن الفوضى وفشل نظام الحكم والطبقة السياسية في إدارة الدولة.
وفي معرض العراق الدولي للكتاب الذي أقيم في بغداد مؤخراً، لفت انتباهي مذكرات رئيس وزراء ماليزيا (1981-2003) الدكتور مهاتير محمد، والتي كان عنوانها (طبيب في رئاسة الوزراء). لذلك وجدتُ في هذا الكتاب حافزاً لمقارنته بمذكرات الساسة العراقيين بعد 2003 الذين غزوا معارض الكتاب السابقة بمذكراتهم. ويمكنني القول أن المقارنة هنا ليست ترفاً وإنّما هي لكشف محاولة تزوير التاريخ لدى بعض السياسيين العراقيين الذي يريدون أن يسوقوا أنفسهم باعتبارهم (قادة ووزراء) تصدوا لِلمسؤولية في ظروف صعبة وقدّموا منجزات!
في الأسطر الأخيرة من مقدمة مذكرات مهاتير محمد، وبعد أن يسرد مسيرة وصوله لِمنصب رئيس الوزراء وتعقيدات الوصول لهذه المنصب، يقول: “غالباً ما تعجبتُ أثناء شغلي منصبي مِن وصول شخص عادي مثلي إلى هذا المنصب. وعند النظر إلى الوراء، يتبين أنها مسيرة مستبعدة لِلغاية بالنسبة إلى طبيب، فكيف بالنسبة إلى أحد من عامّة الناس، ومع ذلك أصبحت رئيس الوزراء الرابع لماليزيا”.
لا يتحدّث ساسةُ العراق مِمَن تقلدوا المناصب العليا في الدولة بهذه اللغة التي تعبّر عن الطموح والمثابرة في الوصول إلى المنصب، وتؤكّد مذكراتهم على أنهم طارئين على ممارسة العمل السياسي كرجالات دولة وليس سياسيين يعملون في المعارضة فقط. إياد علّاوي أول رئيس وزراء للعراق بعد 2003 خصص الجزء الثالث من مذكراته: (بين النيران: مذكرات إياد علاوي) عن تجربته في رئاسة الوزراء للمرحلة المؤقتة، وكأنّما يريد أن يسرد المؤامرات الخارجية والداخلية التي منعت حصوله على ولايةٍ ثانية، من دون أن يحدّثنا عن مشروع أو رؤية سياسية واقتصادية لإنقاذ البلاد من أزماته.
وفي بعض المذكرات، هناك مَن يتحدّث بلغةٍ متعالية وكأنّما هم زاهدون بالمناصب، ولكن هناك مسؤوليات أخلاقية ودينية توجب توليهم السلطة، إذ في كتاب ينقل مقالات رئيس الوزراء الأسبق الدكتور إبراهيم الجعفري، نجده يتحدّث بطريقة منفصلة عن الواقع. يقول في كتاب (تجربة حكم)” “أمّا وجودي في أي موقع من مواقع الحكم، فالقرار عائد إلى الشعب، وهو وحده مَن يضعني في هذا الموقع أو ذاك.” وحقيقاً لا أعلم أي انتخابات جرت بعد 2003 تم فيها اختيار الجعفري مِن قبل الشعب، لاسيما أن الانتخابات الأولى في 2005 والتي أصبح بعدها الجعفري رئيساً للوزراء كان الاختيار فيها على أساس القائمة وليس اختيار الأشخاص!
أمّا رئيس الجمهورية السابق الدكتور فؤاد معصوم، فقد كتب مذكراته وكأنما يريد تبرئه نفسه من حقبة الأربع سنوات التي قضاها في قصر السَّلام. ورغم أنه كان غائباً عن الأحداث السياسية المفصلية التي عصفت بالبلاد في فترة تولّيه المنصب، إلا أنه كان يتباكى على مصادرة صلاحيته من قبل رئيس الوزراء العبادي في تلك الفترة. لكنَّ الطريف في مذكراته أنه يؤكّد على أنَّ وصوله إلى المنصب لم يكن أكثر مِن مجرد صدفة! بعد أن كان يقضي أيامه مع عائلته في فرنسا ويتجه نحو التقاعد مِن العمل السياسي.
محاولة تزوير التاريخ بعد 2003، لا تقتصر على مَن تسنَّم المناصب العليا في الرئاسات، بل هناك بعض الوزراء مَن حاول تقديم نفسه باعتباره مَلاكاً يعمل في حضرة شياطين! ولم يشعر بالخجل عندما يستحضر أحداث ومواقف تشير إلى تعرّضه إلى الإهانة أو التجاهل رغم أنه في منصب “وزير”. ويريد سرد الأحداث بطريقة تجعله بريئاً -كبراءة الذئب مِن دم يوسف- مِن العمل ضمن منظومة الخراب والفساد والفشل، ويريد التحايل على التاريخ مِن خلال انتقاد رئيس حكومته، مِن دون أن يملك هو قراراً شجاعاً بتقديم الاستقالة أو احترام عنوانه كـ”تكنوقراط” كما يصف نفسه.
موضوع التحايل على التاريخ في كتابة المذكرات، ليس بالجديد ولا يختصّ به سياسيو العراق بعد 2003، ففي تتبع تاريخي لمذكرات الشخصية لِلسياسيين العراقيين، يشخّص عالِم الاجتماع والمفكّر العراقي عصام الخفاجي أن سيل المذكرات الشخصية قد بدأ في الثمانينات بين رجال العهد الملكي الذين أحسّوا متأخرين ربما أن عودة الملكيّة إلى العراق باتت مستحيلة، فأخذوا يذكّرون أجيالاً مِن القرّاء لم تعش حقبتهم بأدوارهم الوطنية في صناعة العراق الحديث ومحاولة إزالة ما علق بأذهان الناسِ العاديين عن علاقتهم بالدول الغربية بوصفها “عمالة” أو “تبعية”. ثم جاء سيلٌ ثان مِن المذكرات عن ثورة 14 تموز 1958 التي قلبت الملكيّة في العراق. وكما هي العادة، قرأنا أعمالاً لأناس مِن شتّى الاتجاهات، كلٌّ يريد إقناعنا بأنَّ الثَّورة علامة تجارية مميزة لِشخصه أو لِتياره السياسي. وفي الدفق الثالث مِن المذكرات مسحة درامية أكبر مما نجدها في الحالَين السابقين، كما أظن. أعني هنا نوع من المذكرات، لم نعتد عليه، لقادة ينتمون إلى تيارات لا تزال ترى، أو تقنع الناسَ أنها، جزءٌ مِن الحاضر لا الماضي: شيوعيون وبَعثيون وقوميون باتوا يتبارون في الحديث عن تجاربهم مع أحزابهم، وتجارب أحزابهم مع المجتمع العراقي، وروايات لأحداث لا نزال نعايش بعضها.
لكن تبقى مذكرات السياسيين بعد 2003 ظاهرة تحتاج إلى التأمل والتدقيق، إذ رغم غرابة كتابتهم لمذكراتهم وهم مازالوا في السلطة أو فاعليين سياسيين يمكن لنا أن نحصل على اعترافات بنزعةِ التآمر بينهم وضعف البصيرة والرؤية الاستراتيجية وانعدام إرادة بناء الدولة، فكلُّ ما يمكن أن نعثر عليه في مذكرات إياد علاوي بأجزائها الثلاثة وعمّار الحكيم وسليم الجبوري وفؤاد معصوم هو خليط مِن الحياة الشخصية ببؤسها وفقرها زمن المعارضة وقصص التآمر والصراعات التي يخوضها سياسيو بعد ٢٠٠٣ في ما بينهم؛ ولا نكاد نعثر على قصة نجاح واحدة مثلما نقرأها في مذكّرات الزعماء ورجال الدولة. ولعلَّنا نصاب بالدهشةِ مِن المبالغات والنرجسية العالية التي نجدها في مذكّرات إبراهيم الجعفري وباقر جبر صولاغ (الزبيدي) وإطرائهم الغزير لدورِهم في الحكومات المتعاقبة بعد 2003.