شريعة حمورابي… هل سُجلت ضد مجهول؟
الثلاثاء – 17 جمادى الأولى 1443 هـ – 21 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [15729]
داود الفرحانكاتب عراقي
يتذكر العراقيون، الذين يعانون منذ الاحتلال الأميركي والنفوذ الإيراني في عام 2003 من غياب القانون في بلدهم الذي كانوا يتفاخرون به، ملك بابل حمورابي الذي يطلق عليه العالم لقب «أبو القوانين» أو «أول من وضع القانون على الأرض».
تنبه الملك البابلي في وقت مبكر إلى الوضع السياسي لبلاد بابل ودويلاتها (محافظاتها) آنذاك، فسيطر على الطرق التجارية عند أضيق منطقة بين نهري دجلة والفرات، ما جعل بابل إحدى أهم مدن الشرق. وأنشأ حمورابي الكثير من شبكات الري وعَمَّر الدولة. إلا أن أهم ما تركه حمورابي للحضارة الإنسانية شريعة القانون المعروفة باسمه. ولم تعرف الدولة البابلية مَلكاً مثل حمورابي إلا في عهد نبوخذنصر الذي اشتهر بحدائق بابل المعلقة التي أهداها إلى زوجته سميراميس.
لا توجد كلية للقانون في العالم كله لا تُدرس شريعة حمورابي، الملك السادس بين ملوك بابل (وسط العراق) بين عامي 1782 – 1686 قبل الميلاد. وهي واحدة من أهم التحف التاريخية التي خلّفتها حضارة وادي الرافدين، وأول وثيقة قانونية مكتوبة في الحضارة البشرية. اكتشف عمودَ المسلَّة البالغ طوله مترين ونصف المتر من حجر البازلت الأسود، عالم الآثار السويسري غوستافو جيكيه عام 1909 خلال التنقيب عن الآثار القديمة في مدينة سوسا في إمارة الأحواز العربية (عربستان) التي احتلتها إيران وتقع على الساحل الشرقي للخليج العربي. وكان ملك العيلاميين شدتروك قد نقلها إلى هناك غنيمة حرب في السنة الثانية عشرة قبل الميلاد. ونقلها بدوره الباحث السويسري إلى باريس حيث استقرت في متحف اللوفر مع الآثار الأكدية والبابلية والسومرية والآشورية والفرعونية والكنعانية والسامية والفينيقية خلال حُمّى نهب الآثار في سنوات الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي وغيرها.
كانت مدونة أو شريعة حمورابي من أكمل وأقدم القوانين المكتوبة، وهي تجمع 282 مخالفة وجريمة يعاقب عليها القانون من فرض الغرامات إلى الإعدام. وخلاصتها «الحياة بالحياة، والعين بالعين، والسن بالسن». طبعاً قبل حمورابي كانت هناك عقوبات وغرامات، لكنها لم تكن بالصيغة المكتوبة التي ابتدعها حمورابي ووضعها في مكان عام ليطلع عليها الشعب.
تناولت شريعة حمورابي جميع ما يتعلق بتنظيم الحياة في ذلك الزمان، وتبدأ النصوص بالقضاء والشهود وجرائم السرقة والنهب وتنظيم الجيش والقروض ونسب الفائدة والحقول والبساتين والمنازل والتجارة والديون والشؤون العائلية كالزواج والطلاق والإرث والتبني والتربية والروابط العائلية. وتضمنت الشريعة قبل نحو ثلاثة آلاف عام من صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948 حقوق الإنسان من خلال العدل والمساواة والحرية الشخصية والأعراف والتقاليد، وهي خريطة طريق لحماية حقوق كل شخص في كل مكان، على الرغم من أن العالم لا يزال يشهد اختراقات وتجاوزات كثير من الحكومات لهذه المبادئ، يصل بعضها إلى التمييز العنصري أو الديني أو الطائفي أو العرقي. وتسعى مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية إلى رفع الظلم الحكومي أو المجتمعي أو القانوني.
ومن حظي الحسن أو السيئ أن المنظمتين طالبتا تحريرياً بإطلاق سراحي حين تم اعتقالي في بغداد عام 1998 بسبب مقال صحافي نشرته في صحيفة نقابة الصحافيين العراقيين. وعرفتُ من مدير المخابرات العراقية في حينه أن المنظمتين أصدرتا بيانين لإطلاق سراحي لكن أنشطة المنظمتين غير مرحب بها في كثير من بلدان العالم ومنها العراق، وقد تم إطلاق سراحي بعد أن بعثتُ من زنزانتي الانفرادية برسالة مكتوبة بخطي استجاب لها الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بعد 24 ساعة فقط.
وفهمت من هذه الإشارة أن الاعتماد على المنظمات الدولية بدلاً من الحكومة الوطنية مَضيعة وقت حتى وإن كانت مفوضية حقوق الإنسان أو منظمة العفو الدولية أو حتى منظمة الأمم المتحدة بجلالة قدرها.
أعود إلى ما بدأت به المقال عن كليات القانون في أرقى جامعات العالم (أو الحقوق كما تُسمى في بعض الدول) وتدريسها شريعة حمورابي بوصفها أول قانون بشري لحقوق الإنسان، لأقول إن معظم رؤساء وقادة العالم من خريجي أفضل كليات الحقوق في العالم مثل أكسفورد وكامبريدج البريطانيتين، وييل ونيويورك وكاليفورنيا وكولومبيا وستانفورد وهارفارد وجميعها أميركية، وملبورن الأسترالية.
ومن أبرز خريجي كليات القانون ودرسوا شريعة حمورابي الرئيسة الأرجنتينية كريستينا كرشنر، ورئيسة مالاوي جويس باندار، والزعيم الهندي المهاتما غاندي الذي دَرَسَ القانون وتخرج في لندن عام 1890 وعمل محامياً في جنوب أفريقيا، والرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما بالإضافة إلى أكثر من عشرة رؤساء أميركيين آخرين كانوا محامين. ومن اللاجئين العرب المحامين الذين صاروا رؤساء جمهورية في دول اللجوء الرئيس السوري الولادة كارلوس منعم في الأرجنتين، وكذلك اللبناني الأصل ميشيل ثامر الذي تولى رئاسة البرازيل، ولا أنسى أن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين كان من خريجي كلية الحقوق في جامعة بغداد، وهو يختلف عن كل هؤلاء الرؤساء في أنه كان شديد الإعجاب بشريعة حمورابي، وحمورابي نفسه، وأعاد بناء مدينة بابل الأثرية حيث كانت عاصمة الدولة البابلية عاصمة الزمان في ذلك الأوان.
أما اليوم، أما اليوم يا سادتي، فقد نسي العراقيون شريعة حمورابي بعد أن غاب القانون طوال 18 عاماً من الاحتلالين الأميركي والإيراني، وصارت الدولة كلها منفلتة، وليست الميليشيات وحدها. صارت الميليشيات دولاً قوية داخل دولة ضعيفة منخورة أجرت انتخابات لمجلس النواب منذ أكثر من شهرين وتخشى أن تعلن نتائجها النهائية حتى اليوم لأن الميليشيات الموالية لإيران الخاسرة في الانتخابات تهدد باجتياح المنطقة الخضراء وإسقاط ما تبقى من النظام الحالي والاستيلاء على العراق. بل إن رئيس الوزراء الحالي الذي حاولوا اغتياله في منزله ليس برصاصة مسدس، وإنما بثلاث طائرات مسيّرة تحمل متفجرات، لا يقدر على إعلان نتائج التحقيقات بعد أن صرح قبل شهر بأن اللجنة التحقيقية توصلت إلى تفاصيل مهمة في الجريمة الانفجارية. والجناة ما زالوا يحاصرون المنطقة الخضراء لتغيير نتائج الانتخابات لصالحهم أولاً وإغلاق التحقيق في محاولة الاغتيال ثانياً.
من مفارقات الزمن أن محافظة بابل تضم «ناحية إدارية» اسمها «جرف الصخر» على بُعد 60 كلم جنوب غربي بغداد، وكان يسكنها حتى عام 2014 أكثر من 4000 نسمة من الفلاحين وصيادي السمك. وقد ابتُليت هذه المدينة الصغيرة بغزو مجموعات من تنظيم «داعش» الإرهابي في عام 2014 وتدخلت قوات الاحتلال الأميركي والجيش العراقي الحالي والميليشيات الموالية لإيران واستطاعت تحرير المدينة. إلا أن الميليشيات تمسكت بها ورفضت عودة سكانها القرويين إلى بيوتهم وحوّلتها إلى حصن حصين تابع لها وتحت إشراف «فيلق القدس» الإيراني حين كان يقوده قاسم سليماني. وهي لا تبعد كثيراً عن آثار مدينة بابل.
وتعرف المنظمات الدولية المعنية وقوات الاحتلال الأميركي والحكومات العراقية المتتالية بعد 2003 أن هذه المدينة تحولت إلى معتقل رهيب يضم آلاف المدنيين من طائفة السنة الذين تم اختطافهم من منازلهم في محافظات بابل والأنبار وصلاح الدين ونينوى وديالى وبغداد منذ عام 2014 حتى اليوم من دون أن تعرف عوائلهم إن كانوا ما زالوا أحياء أو تم إعدامهم كما ظهر في بعض الفيديوهات التي تسربت إلى المواقع الإخبارية وسط صمت النظام العراقي القائم.
هل يستحق «أبو الشرائع» القانونية الملك حمورابي أن يكون هذا مصير أحفاد أحفاده من سكان دولته العظيمة التي كانت سيدة العالم قبل أكثر من ستة آلاف عام؟
رحم الله حمورابي بن سين موباليط، ملك الزوايا الأربع في بلاد بابل، الذي منع الكهنة من التدخل في شؤون الإمبراطورية البابلية.