جورج أورويل وأنظمة النقيق السياسي!
الأربعاء – 18 جمادى الأولى 1443 هـ – 22 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [15730]
لم يكن الروائي البريطاني جورج أورويل، يدرك أن توقعاته لشكل النظام السياسي في روايته 1984 التي كتبها في 1949 قد جاءت متأخرة كثيراً عمّا أنتجه الشرق الأوسط من أنظمة (الزعيم الأوحد وملك الملوك والقائد الضرورة وإمام الأمة) والتي كانت متفوقة أو مطابقة أو ربما أكثر توحشاً من (الأخ الأكبر)، الذي جاء كناتج تطوري على طريقة تشارلز داروين صاحب نظرية التطور، وبدلاً من أخ كبير واحد أصبح لدينا بالتكاثر العشرات من ذلك الأوحد ممن يحملون ذات الجينات ولكن أكثر تطوراً، والتطور هنا ليس بالضرورة إلى الأمام، بل ربما يكون عكسياً كما يرى الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه!
وبالعودة إلى تشارلز داروين – الذي افترض أن أصل الأنواع لدى بعض الأحياء يعود إلى كائنات بدائية استغرقت حقباً زمنية طويلة لكي تتطور- نرى أنه لو عاش معنا منذ تأسيس كثير من الكيانات السياسية لكان أدرك أن تطور السلوكيات والظواهر السايكولوجية وخاصةً الافتراسية منها، أكثر وضوحاً في الكائنات السياسية مما كان يعنيه في التطور العضوي لبقية الكائنات الحية، وخاصةً لدى تلك الأنظمة والكائنات الحاكمة التي أنتجتها اتفاقيات بريطانيا وفرنسا وحلفائهما بدايات القرن الماضي، والتي تميزت سلوكياً عبر مراحل تطورها (الانقلابات) بالشعارات والمزايدات على أكثر ما يدغدغ عواطف العامة، ويخدرها بنقيق إعلامي يسطح العقول ويصنع سلوكاً على مقاسات تلك الأنظمة.
هذه النّخب الحاكمة متمثلةً باتجاهيها اليميني واليساري، تميزت هي الأخرى باللعب على الحبلين، حيث اتجهت بسلوكها إلى نمط آخر يطلق عليه أتباع السيد دارون بالتكيف البعدي (Postadaptation)، إذ تحاول الكائنات الحاكمة أن تتكيف للبيئة التي تعيش فيها بأفضل صورة دونما تأثير على أصل الأنواع، وكان هذا جلياً في العراق بعد 2003، وفي ليبيا بعد 2011 وفي اليمن لاحقا، حيث التكيف والتحول لكثير من اتباع تلك الكائنات التي نجحت بالانتقال السلس للمرحلة الجديدة ومستلزماتها في الأداء والشعارات، خاصةً وأن (القائد الضرورة) قد أنتج مجموعة قوانين تساعد على التحول السريع فقد اتخذ (مجلس قيادة الثورة) قراراً أعتبر بموجبه كافة سكان مملكته (وإن لم ينتموا) من نفس الأنساب والأصول، ومن يشك في ذلك (من القوميات والأعراق الأخرى) فما عليه إلا مراجعة مسؤول أختام الأنساب والأصول في ديوان الرئاسة الموقر، كي يجد لأبيه مكاناً (فوق الشجرة)؛ وبذلك أصبح لدينا خلال أقل من نصف قرن جيوشاً جرارة من الحرس القومي والجيش الشعبي وجيش القدس والتي تطورت هي الأخرى بقفزات نوعية إلى منظمات وميليشيات وحشود تعج بها سوريا والعراق وليبيا ولبنان واليمن.
لو أدرك السيد تشارلز داروين (غفر الله ذنبه) البعض الآخر بعد سقوط أنظمة النقيق، لاكتشفَ أصولاً وأنساباً أخرى غير التي حددها، فقد دلت السنوات الثماني عشر المنصرمة على وجود علاقة سلوكية وسايكولوجية بين كثير ممن شغلوا مواقع الكائنات السابقة وبين كائنات أخرى أكثر توحشاً، حيث تطورت طفيليات بدائية لا تكاد ترى بالعين المجردة خلال بضع سنوات إلى حيتان مفترسة، تأكل الأخضر واليابس، الحلال والحرام، دونما صوت أو حركة، والمذهل في تطورها السريع هذا وهي تلتهم حولها كل شيء، إنها لا تستخدم أي سلاح في الالتهام سوى أنها توقف نمو وتطور كل الأشياء فيما حولها، عكس ما تفعله النماذج المطورة من الثعالب، حيث التحايل والتملق والتدليس والنعومة والتخصص في علم (من أين يؤكل الكتف)، أو ربما تختلف كثيراً عن تلك الأجيال المعدلة عن الذئاب، فالذئب يقتل كي يأكل وهؤلاء يقتلون على الهوية لمجرد القتل ليس إلا، ربما هي (أنيفالات- مصغر انفال) تمتد في أصولها إلى أولئك الوحوش؟
والغريبُ أن هذه الأنماط من السلوكيات تتعايش سلمياً مع بعضها البعض رغم اختلاف أصول تطورها والبون الشاسع بين ما كانت فيه وما أصبحت عليه، ربما يكون جورج أورويل محقاً بطروحاته في روايته (مملكة الحيوان) حينما انقلبت الصفات المتأصلة على المكتسبة وكان ما كان؟
أعتقد، والعلم عند الله، أن مستر تشارلز داروين، لو كان قد أدرك هذه الأيام لأعاد النظر في آرائه وأيقن أننا أولاد آدم مخلوقون من تراب، وإن بقية الكائنات هي التي تطورت من بعضنا وليس العكس كما كان يعتقد!