بأي ذنبٍ تزوّج القاصرات في العراق؟
آراءولاء سعيد السامرائي
28 ديسمبر 2021
تتداول مواقع التواصل الاجتماعي منذ أيام مقطع فيديو لشيخ دين يتحدّث مع طفلةٍ لا تتجاوز سبع سنوات لإقناعها بالزواج منه، ولاقى استياءً كبيرا وغضبا واسعا لدى العراقيين، وخصّصت قنوات إعلامية له حيزا في نشراتها الإخبارية، وحاورت بشأنه باحثات اجتماعيات وطبيبات. وقد حمل ذلك إصدار مكتب المرجع الديني، على السيستاني، تصريحا يطالب فيه السلطات الحكومية بملاحقة مروّجي “ممارسات” تسيء للدين من دون تسمية، ولم يكتب أي نوع من الممارسات بالذات، لها تبعات بالغة السوء على المجتمع، وموقع الدين في نفوس الناس. ويبدو أن هذا التصريح جاء نتيجة رد الفعل الشعبي، واستهجانه تفشّي الزواج بالقاصرات بين أتباع المرجع، وخصوصا من الدعاة والمشايخ بشكل واسع في المدن الجنوبية والأرياف واستغلال حالة الفقر المدقع التي يعيشها سكان هذه المدن، حتى أصبح، كما تقول الباحثة الاجتماعية بتول إبراهيم، تجارة رابحة وبيعا وشراء للصغيرات من ذويهن، من دون مراعاة صغر السن والجسد والوعي، ومعنى تكوين أسرة ووجود حياة حميمية بين طرفين، أحدهما بالغ وراشد والآخر ما يزال طفلا.
تزويج القاصرات من نتائج القانون الجعفري الذي فرضه البرلمان وصوّت عليه قبل سنوات، بعد حملة واسعة من أحزاب العملية السياسية التي ندّدت بقانون الأحوال المدنية المعمول به، وانتقصت من القوانين المشرّعة في النظام السابق وما قبله، والتي تحمي الطفولة والمرأة والأم والعائلة في مثل هذه الحالة، وفي حالات الطلاق والحضانة، ويعتبر هذا القانون من أفضل قوانين دول المنطقة قاطبة.
لربما يخيّل أن حالات تزويج القاصرات في العراق ظاهرة محدودة، لكن انفضاح أرقام أخرى تخفيها الدولة ومؤسساتها تتعلق بهذا الواقع صدم الناس
ولربما يخيّل أن حالات تزويج القاصرات في العراق ظاهرة محدودة، لكن انفضاح أرقام أخرى تخفيها الدولة ومؤسساتها تتعلق بهذا الواقع صدم الناس وروّعهم، إذ ذكرت الباحثة الاجتماعية وجود سبعين ألف حالة وفاة للصغيرات في أثناء ولادتهن، وهو رقم مرعب ومخيف ومحزن، يطرح أسئلة لا عدّ لها ولا حصر بشأن ما يجري في العراق من امتهان لحقوق الإنسان ولحقوق الطفولة بشكل خاص. من المؤسف وجود مثل هذا العدد من الوفيات وتثبيت حالات السمسرة بالقاصرات، سواء من الأهل أو من الميسورين، وكل ما يقوم به المرجع الديني هو فقط حثّ الحكومة علي ملاحقة المروّجين، في حين أن في وسعه أن يصدر شرحا، وحتى فتوى، لتحريم ذلك، ويتدخل في إيقاف كل ما هو ضد حقوق الأطفال في القانون الجعفري، وبالتحديد تزويج القاصرات المشين، والذي هو خرق كبير لحقوق الإنسان وفق كل الشرائع والقوانين الإسلامية وغيرها، منها أصلا القانون العراقي، وتصنيف منظمة الصحة العالمية الشريحة العمرية من 15-18 سنة بعمر المراهقة، بينما يسمح القانون الجعفري بالزواج من الطفلة بعمر أقل من 15 عاما، مدّعين ومتفاخرين بالاختلاف عن باقي القوانين بطريقة ممجوجة، لا يقبلها العقل ولا الدين ولا الإنسانية! أين دور الدولة ومؤسساتها في كل هذه الانتهاكات الصارخة لحق الطفولة وحق الحياة للقاصرات؟
لم يكن القانون العراقي قبل الغزو يسمح بالزواج للمرأة إلا في عمر البلوغ والرشد، عاما، وهو عمر 18 سنة
أين “مؤسّسات النظام الديمقراطي” التي عند الحاجة لها يصدّعون رؤوسنا بالكلام عنها ووجودها في العملية السياسية؟ لماذا لا تسمع أصواتهم إزاء تزويج القاصرات ومن هذا العدد الهائل لموتهن عند الولادة؟ من يتحمّل مسؤولية هذه الجرائم بحق الطفولة هو أولا من شرّع هذه القوانين وفرضها، ويروّجها دينيا وعقائديا، وألغى القوانين الإنسانية الموجودة التي كانت تنظم العلاقات بشكل حديث. والمسؤول الثاني هو المرجعية الدينية التي تزخر تعليماتها وإرشاداتها بتفسيرات دينية كثيرة لممارساتٍ تتعارض مع القوانين السارية ومع الدين وحقوق الإنسان. لم يكن القانون العراقي قبل الغزو يسمح بالزواج للمرأة إلا في عمر البلوغ والرشد، عاما، وهو عمر 18 سنة، ويمنع الزواج خارج المحاكم، كما لا يسمح بالزواج إلا في حالة الصحة العقلية والنفسية. وقد ضُرب عرض الحائط بكل عذه الشروط، لتكون مكملة لكل ما تم إدخاله إلى المجتمع العراقي لتفتيته، من وكالات الزواج المؤقت الذي تطوّر إلى شبكات منحرفة وإجرامية وسمسرة، يشير إليها تصريح مكتب المرجع السيستاني نفسه الذي كتب: إن ضعف هيبة القانون في البلد فسح المجال أمام البعض للقيام بالعديد من الممارسات غير المشروعة، حتى بلغت إنشاء بيوت الدعارة والترويج لها! وفي التصريح نفسه هذا الذي نشر في كل أجهزة الإعلام العراقية، يقول المرجع السيستاني: “الزواج المؤقت الذي يجوز في مذهب الإمامية لا يسوّغ أن يتخذ وسيلة للمتاجرة بالجنس … ولا يتبعها إلا ضعاف النفوس الذين لا يتورّعون عن “استغلال الدين” وسيلة للوصول إلى أهدافهم غير المشروعة”، لكن الحقيقة اليوم في العراق ليست فقط استغلال الدين، بل أصبح ذلك موردا يدرّ المليارات ووسيلة لتبييض الأموال وتجارة يتربّح منها المتنفذون، مرتبطة بالمليشيات والأحزاب التي تجبي علنا وأمام أنظار الشعب العراقي أموالا من صالات القمار والدعارة مقابل الحماية!
تفتيت المجتمع العراقي هو الغزو الأخطر الذي حصل مع الغزو الأميركي العسكري الذي دمر البنى التحتية لدولة العراق
بالتزامن مع شيوع فيديو الطفلة القاصر، ألقت الشرطة العراقية القبض على شيخ الدين، سمير السوداني، وفي حوزته أسلحة وكيلوان من “حبوب الكريستال” المخدّرة، وعرضت الشرطة ذلك على شاشات القنوات التلفزيونية، لتعطي للعراقيين أرقام جرائم القتل بسبب المخدّرات والتي وصلت إلى عشرة آلاف وسبعة وسبعين قتيلا عام 2021، في بلدٍ كان نظيفا تماما من المخدّرات قبل الغزو، ووصلت جرائم الاحتيال إلى أحد عشر ألفا ومائتي جريمة. .. وعلى الرغم من الجرائم التي تحدُث يوميا، وبشكل كبير ومتزايد عاما بعد عام، في شتّى مناحي حياة العراقيين، لا يرى العراقيون “مؤسّسات النظام الديمقراطي” الذي فرضه الاحتلال الأميركي، مثل مفوضية حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني، المرتبط كثيرٌ منها بالولايات المتحدة وبسفارتها، وبدول أخرى أو بممثلية الأمم المتحدة وغيرها، لم نر أو نسمع أنها تتدخل لحماية حقوق العراقيين والعراقيات، وهم يتابعون ذلك كله عن قرب، ولهم عيونهم التي توثّق لهم ما يحدُث بشكل دقيق، بدليل اهتمامهم الرسمي الكبير بالمثليين والدفاع عنهم وتمويلهم والاحتفاء بهم، كما فعلت السفارة البريطانية التي رفعت علمهم في العام الماضي في الأول من رمضان، ودفاع السفير البريطاني المستميت عن الاحتفال الذي قام به ضد الاحتجاجات التي صدرت مطالبة باحترام تقاليد البلد وشعائره التي هي أصلا في صلب احترام حقوق الإنسان والقوانين الدولية المتعلقة بها.
تفتيت المجتمع العراقي هو الغزو الأخطر الذي حصل مع الغزو الأميركي العسكري الذي دمر البنى التحتية لدولة العراق، وضرب سكانها بالأسلحة المحرّمة دوليا. وبالتوازي مع ذلك، تستمر معاول التدمير الأخرى، بقوانين لا علاقة لها بالدين، كما تزويج القاصرات ونشر المخدرات وذيوع الفساد، باستخدام العقيدة والتلاعب بمطاطية القانون وتواطؤ الأحزاب والمليشيات في تدمير المجتمع العراقي بشكل منظّم، بغرض إخضاعه وشلّ شبابه الثائر والرافض للعملية السياسية التي فرضها الاحتلال الأميركي، ويديرها الوكيل الإيراني.