درس عميق من كيسنجر لبايدن
الثلاثاء – 8 جمادى الآخرة 1443 هـ – 11 يناير 2022 مـ رقم العدد [15750]
نديم قطيش إعلامي لبناني
انتهت الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفياتي. وسلك ما يسمى «الصراع العربي – الإسرائيلي» مسارات معقدة منذ اتفاقات وقف إطلاق النار بين كل من سوريا ومصر من جهة وإسرائيل من جهة أخرى في أعقاب حرب 1973، وصولاً إلى الاتفاق الإبراهيمي بين الإمارات (والبحرين والسودان والمغرب) وإسرائيل، مروراً بالطبع باتفاق أوسلو الرئيسي بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل.
إنه شرق أوسط مختلف تماماً عن ذاك الذي بنى مداميكه الأساسية هنري كيسنجر خلال توليه منصب مستشار الأمن القومي ثم المستشار ووزير الخارجية معاً بين عامَي 1969 و1977، مع الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، وفحواه العلاقة الأميركية الخاصة بإسرائيل والشراكات الوثيقة مع قوى الاستقرار بين دول المنطقة.
شرق أوسط كيسنجر حجر زاوية في استراتيجية المواجهة مع الاتحاد السوفياتي، الذي كان يبسط مظلة آيديولوجية تضم تحتها الكثير من دول المنطقة، وكان يحظى بقواعد عسكرية في الشرق الأوسط ويلتحم مع الأميركيين عبر عدد كبير من الحروب بالوكالة حول العالم.
لا ينطبق أي من هذه الملامح على طبيعة التنافس الصيني – الأميركي اليوم، وقد يذهب البعض إلى أن مصالح واشنطن واحتياجاتها ومخاوفها الراهنة لا تستوجب دوراً أميركياً مباشراً في الشرق الأوسط؛ ما يجعل من سيرة كيسنجر مادة لهواة كتب التاريخ، وبلا أي دروس مستفادة لعالم اليوم. الأمر ليس كذلك على الإطلاق. فما هي دروس كيسنجر الملائمة.
مناسبة العودة إلى كيسنجر، كتاب صدر حديثاً للدبلوماسي الأميركي مارتن إنديك، عن الدبلوماسي والسياسي والمنظِّر الأسطورة، الذي صعد سلالم الترقي في أميركا بسرعات خرافية، هو اللاجئ إلى العالم الجديد من جحيم الهولوكوست في ألمانيا، حيث فقد أكثر من عشرة أقارب مباشرين له في أفران أدولف هتلر.
ما يمنح كتاب إنديك فرادته بين عشرات الكتب ومئات الدراسات التي كتبت عن كيسنجر، أنه مخصص بشكل حصري لدبلوماسية كيسنجر في الشرق الأوسط، كآلية معقدة لصيانة الاستقرار. فالاستقرار بحسب إنديك، وهو اكتشافه الأهم في الكتاب وأهم ما سيكتشفه القارئ معه، هو أولوية العقل الكيسنجري الذي كان يرى السلام كمشكلة بطبيعته. الاستقرار هو الهدف وليس السلام. يلفت إنديك إلى أن شكوك كيسنجر حول القيمة السياسية العملية لفكرة السلام كقيمة مثالية، رافقت تفكيره منذ بدايات نضوجه الفكري والثقافي، كما يوحي بذلك العنوان الفرعي لأطروحة الدكتوراه خاصته وهي أول كتبه المطبوعة، إذا يقرأ العنوان التالي:
عالم مستعاد: مترنيخ وكاستلري، ومشاكل السلام 1812 – 1822.
كان السلام مشكلة منذ البداية، في عقل كيسنجر، الذي انحاز دوماً إلى «عملية السلام وليس السلام» كآلية لصيانة الاستقرار.
اكتفى كيسنجر بعد حرب 1973 بتوقيع اتفاقات تمهيدية، اثنان بين مصر وإسرائيل وواحد بين سوريا وإسرائيل، ولم يستعجل الوصول إلى اتفاقات سلام شاملة تعالج كل قضايا الخلاف. ولأجل ذلك، يكشف كتاب إنديك، كيف أن الدبلوماسي الأسطورة أدار، بنجاح وفشل متفاوتين، لعبة التوازن بين الجيشين المصري والإسرائيلي، للوصول إلى توازن عسكري ميداني يسمح للطرفين بدخول عملية سلام بحد معقول من الكرامة الوطنية وبحد أكثر معقولية من المصالح المشتركة، والولوج من ذلك إلى بناء شرق أوسط جديد مناسب لواشنطن ومزعج لروسيا، من دون أن يسدد ضربة قاضية لسياسة التهدئة مع الاتحاد السوفياتي.
ويُلمح إنديك في أكثر من موقع في كتابه إلى أن كيسنجر هو من أوحى بطريقة غير مباشرة للسادات بأن الحرب هي وسيلته الوحيدة لجذب انتباه واشنطن وإعادة «توريطها» في ملف الشرق الأوسط. وهذا تلميح تعززه ملاحظات لإنديك تفيد بأن حرب 1973 كانت أساسية لتفعيل نظريات كيسنجر عن التوازن والاستقرار ووضعها موضع التنفيذ.
ظروف كثيرة سمحت لرجل واحد أن يلقي بظلال عقله على مجريات الشرق الأوسط.
فحجم الاضطراب الذي ميز سنوات واشنطن تلك، طال كل المستويات. سياسياً وعسكرياً كانت واشنطن في طريق الخروج المهين من فيتنام، ومؤسساستياً كانت إدارة نيكسون تواجه تصدعات هائلة من استقالة نائب الرئيس سبيرو أغنيو إلى حال الإحباط وشبه الغياب الذهني للرئيس نفسه، أما إعلامياً وشعبياً فكانت فضيحة ووترغيت تطوق البيت الأبيض وتستنزف كامل تركيز فريق نيكسون. وسط هذه المعمعة انفجرت حرب 1973 ولجأ العرب إلى سلاح قطع النفط، ووصلت المواجهة السوفياتية – الأميركية إلى حافة الحرب النووية عبر إعلان واشنطن تفعيل أعلى مستوى من التأهب العسكري حول العالم.
يختتم إنديك كتابه بدعوة «صناع السياسة الأميركيين للعودة إلى نهج كيسنجر التدريجي كجزء من استراتيجية أوسع لبناء نظام شرق أوسطي جديد مدعوم من الولايات المتحدة».
وبطبيعة الحال، فإن إنديك الذي قضى معظم حياته المهنية في «صناعة السلام» (peace industry) بين الإسرائيليين والفلسطينيين، يعني بدعوته المشار إليها هذا الملف تحديداً لا أي ملف آخر، في حين أن المشكلة الفلسطينية – الإسرائيلية هي أقل مشاكل المنطقة أهمية الآن.
ما يعنينا اليوم من الكتاب هو الدرس الذي يستخلصه إنديك من كيسنجر بأن السلام إذا ما دفع باتجاهه بقوة سيؤدي إلى الحرب وكسر عملية السلام، وهو ما يقر إنديك بأنه حصل مع الفلسطينيين في الأيام الأخيرة من ولاية بيل كلينتون حين حاولت الإدارة فرض السلام بقوة وعناد. وهذا درس مهم لإدارة الرئيس جو بايدن، الذي يسعى جاهداً إلى فرض السلام النووي الإيراني – الأممي بقوة من دون أن يأخذ في عين الاعتبار ما يقوله كيسنجر إنها شروط السلام.
يقول إنديك، إن «كيسنجر فهم أن توازن القوى ليس كافياً. فلكي يكون الانتظام مستداماً، يجب أن يكون أيضاً شرعياً؛ مما يعني أن جميع القوى الكبرى داخل النظام يجب أن تلتزم بمجموعة من القواعد المقبولة عموماً. لن يتم احترام هذه القواعد إلا إذا وفرت إحساساً كافياً بالعدالة لعدد كافٍ من الدول». ويضيف كيسنجر، أن الأمر «لا يتطلب حل جميع المظالم، بل المظالم التي من شأنها أن تحفز على محاولة قلب النظام». ويستنتج كيسنجر أن نظاماً شرعياً مثل الذي وصفه، لن يقضي على الصراع، لكنه سيحد من نطاقه.
مشكلة الاتفاق مع إيران أنه لا يعالج المظالم الرئيسية التي تخلق معالجتها مصلحة للدول المعنية في المنطقة كي تدعم الاتفاق وترحب به. لن تفعل ذلك إسرائيل وعلى حدودها عشرات الآلالف من الصواريخ الإيرانية ولن تقبل به دول الخليج في حين ترعى إيران تحفيز النعرات المذهبية في المجتمعات العربية، وتدير في داخل بعضها ميليشيات مجرمة، وفي بعضها الآخر خلايا أمنية خطيرة.
مشكلة الاستقرار في المنطقة اليوم، ليست إسرائيل ولا الحرب الباردة ودول المعسكر الشرقي العربية، بل إيران كنظام ثوري يسعى بشكل دؤوب لتغيير قواعد اللعبة وتوازناتها.
محاولات فرض السلام بالقوة، وشراء الوقت من دون رؤية لإعادة إنتاج نظام استقرار في الشرق الأوسط هو أقصر الطرق إلى حرب جديدة، تعيد استدراج واشنطن إلى الشرق الأوسط، تماماً كما حصل عام 1973.
الفارق يومها أن من بدأ الحرب، أي أنور السادات، كان يخطط عبر الحرب للسلام واستعادة استقرار عادل. ذهب السادات إلى الحرب مع دولة يعلم أنها نووية مدركاً أن الحرب ستظل في إطارها التقليدي.
أما مع إيران الثورية، التي تسعى لتعميم الخراب تمهيداً لظهور الإمام الغائب، فلا أحد يعلم كيف ستسير هذه الحرب التي يقودنا إليها إصرار ساذج على صناعة السلام – النووي مع إيران.
لكتب ومئات الدراسات التي كتبت عن كيسنجر، أنه مخصص بشكل حصري لدبلوماسية كيسنجر في الشرق الأوسط، كآلية معقدة لصيانة الاستقرار. فالاستقرار بحسب إنديك، وهو اكتشافه الأهم في الكتاب وأهم ما سيكتشفه القارئ معه، هو أولوية العقل الكيسنجري الذي كان يرى السلام كمشكلة بطبيعته. الاستقرار هو الهدف وليس السلام. يلفت إنديك إلى أن شكوك كيسنجر حول القيمة السياسية العملية لفكرة السلام كقيمة مثالية، رافقت تفكيره منذ بدايات نضوجه الفكري والثقافي، كما يوحي بذلك العنوان الفرعي لأطروحة الدكتوراه خاصته وهي أول كتبه المطبوعة، إذا يقرأ العنوان التالي:
عالم مستعاد: مترنيخ وكاستلري، ومشاكل السلام 1812 – 1822.
كان السلام مشكلة منذ البداية، في عقل كيسنجر، الذي انحاز دوماً إلى «عملية السلام وليس السلام» كآلية لصيانة الاستقرار.
اكتفى كيسنجر بعد حرب 1973 بتوقيع اتفاقات تمهيدية، اثنان بين مصر وإسرائيل وواحد بين سوريا وإسرائيل، ولم يستعجل الوصول إلى اتفاقات سلام شاملة تعالج كل قضايا الخلاف. ولأجل ذلك، يكشف كتاب إنديك، كيف أن الدبلوماسي الأسطورة أدار، بنجاح وفشل متفاوتين، لعبة التوازن بين الجيشين المصري والإسرائيلي، للوصول إلى توازن عسكري ميداني يسمح للطرفين بدخول عملية سلام بحد معقول من الكرامة الوطنية وبحد أكثر معقولية من المصالح المشتركة، والولوج من ذلك إلى بناء شرق أوسط جديد مناسب لواشنطن ومزعج لروسيا، من دون أن يسدد ضربة قاضية لسياسة التهدئة مع الاتحاد السوفياتي.
ويُلمح إنديك في أكثر من موقع في كتابه إلى أن كيسنجر هو من أوحى بطريقة غير مباشرة للسادات بأن الحرب هي وسيلته الوحيدة لجذب انتباه واشنطن وإعادة «توريطها» في ملف الشرق الأوسط. وهذا تلميح تعززه ملاحظات لإنديك تفيد بأن حرب 1973 كانت أساسية لتفعيل نظريات كيسنجر عن التوازن والاستقرار ووضعها موضع التنفيذ.
ظروف كثيرة سمحت لرجل واحد أن يلقي بظلال عقله على مجريات الشرق الأوسط.
فحجم الاضطراب الذي ميز سنوات واشنطن تلك، طال كل المستويات. سياسياً وعسكرياً كانت واشنطن في طريق الخروج المهين من فيتنام، ومؤسساستياً كانت إدارة نيكسون تواجه تصدعات هائلة من استقالة نائب الرئيس سبيرو أغنيو إلى حال الإحباط وشبه الغياب الذهني للرئيس نفسه، أما إعلامياً وشعبياً فكانت فضيحة ووترغيت تطوق البيت الأبيض وتستنزف كامل تركيز فريق نيكسون. وسط هذه المعمعة انفجرت حرب 1973 ولجأ العرب إلى سلاح قطع النفط، ووصلت المواجهة السوفياتية – الأميركية إلى حافة الحرب النووية عبر إعلان واشنطن تفعيل أعلى مستوى من التأهب العسكري حول العالم.
يختتم إنديك كتابه بدعوة «صناع السياسة الأميركيين للعودة إلى نهج كيسنجر التدريجي كجزء من استراتيجية أوسع لبناء نظام شرق أوسطي جديد مدعوم من الولايات المتحدة».
وبطبيعة الحال، فإن إنديك الذي قضى معظم حياته المهنية في «صناعة السلام» (peace industry) بين الإسرائيليين والفلسطينيين، يعني بدعوته المشار إليها هذا الملف تحديداً لا أي ملف آخر، في حين أن المشكلة الفلسطينية – الإسرائيلية هي أقل مشاكل المنطقة أهمية الآن.
ما يعنينا اليوم من الكتاب هو الدرس الذي يستخلصه إنديك من كيسنجر بأن السلام إذا ما دفع باتجاهه بقوة سيؤدي إلى الحرب وكسر عملية السلام، وهو ما يقر إنديك بأنه حصل مع الفلسطينيين في الأيام الأخيرة من ولاية بيل كلينتون حين حاولت الإدارة فرض السلام بقوة وعناد. وهذا درس مهم لإدارة الرئيس جو بايدن، الذي يسعى جاهداً إلى فرض السلام النووي الإيراني – الأممي بقوة من دون أن يأخذ في عين الاعتبار ما يقوله كيسنجر إنها شروط السلام.
يقول إنديك، إن «كيسنجر فهم أن توازن القوى ليس كافياً. فلكي يكون الانتظام مستداماً، يجب أن يكون أيضاً شرعياً؛ مما يعني أن جميع القوى الكبرى داخل النظام يجب أن تلتزم بمجموعة من القواعد المقبولة عموماً. لن يتم احترام هذه القواعد إلا إذا وفرت إحساساً كافياً بالعدالة لعدد كافٍ من الدول». ويضيف كيسنجر، أن الأمر «لا يتطلب حل جميع المظالم، بل المظالم التي من شأنها أن تحفز على محاولة قلب النظام». ويستنتج كيسنجر أن نظاماً شرعياً مثل الذي وصفه، لن يقضي على الصراع، لكنه سيحد من نطاقه.
مشكلة الاتفاق مع إيران أنه لا يعالج المظالم الرئيسية التي تخلق معالجتها مصلحة للدول المعنية في المنطقة كي تدعم الاتفاق وترحب به. لن تفعل ذلك إسرائيل وعلى حدودها عشرات الآلالف من الصواريخ الإيرانية ولن تقبل به دول الخليج في حين ترعى إيران تحفيز النعرات المذهبية في المجتمعات العربية، وتدير في داخل بعضها ميليشيات مجرمة، وفي بعضها الآخر خلايا أمنية خطيرة.
مشكلة الاستقرار في المنطقة اليوم، ليست إسرائيل ولا الحرب الباردة ودول المعسكر الشرقي العربية، بل إيران كنظام ثوري يسعى بشكل دؤوب لتغيير قواعد اللعبة وتوازناتها.
محاولات فرض السلام بالقوة، وشراء الوقت من دون رؤية لإعادة إنتاج نظام استقرار في الشرق الأوسط هو أقصر الطرق إلى حرب جديدة، تعيد استدراج واشنطن إلى الشرق الأوسط، تماماً كما حصل عام 1973.
الفارق يومها أن من بدأ الحرب، أي أنور السادات، كان يخطط عبر الحرب للسلام واستعادة استقرار عادل. ذهب السادات إلى الحرب مع دولة يعلم أنها نووية مدركاً أن الحرب ستظل في إطارها التقليدي.
أما مع إيران الثورية، التي تسعى لتعميم الخراب تمهيداً لظهور الإمام الغائب، فلا أحد يعلم كيف ستسير هذه الحرب التي يقودنا إليها إصرار ساذج على صناعة السلام – النووي مع إيران.