الدولة القوية لا تحتاج ميليشيات
الثلاثاء – 15 جمادى الآخرة 1443 هـ – 18 يناير 2022 مـ رقم العدد [15757]
داود الفرحان كاتب عراقي
لم يسبق في التاريخ العربي – وربما التاريخ الدولي – أن نشأت وترعرعت وانتشرت «صناعة الميليشيات» في دول ذات سيادة وحدود وجيوش ودساتير وأعلام، مثلما حدث خلال السنوات العشر الأخيرة، في بلدان مثل العراق وسوريا وليبيا والسودان واليمن ولبنان. ميليشيات لها أعلام وعناوين وميزانيات وقيادات واجتماعات، وأسلحة تبدأ من الخفيفة ولا تنتهي بالثقيلة. فقد تعدت أسلحتها المدرعات والدبابات والمدافع والبنادق بمختلف أنواعها، و«الكاتيوشا»، والصواريخ والألغام، إلى الفضاء السيبراني والطائرات المُسيَّرة من دون طيار (درون). وهي ليست ميليشيات تختفي في الجبال أو الغابات أو الكهوف أو الصحارى؛ لكنها علنية ولها مقرات معروفة، وتحمل سياراتها ومدرعاتها أرقاماً متسلسلة، وأسماء الميليشيات التابعة لها. وأكثر من ذلك، فلها نواب في مجلس النواب، ووزراء في الحكومة، مثلما حدث طوال السنوات العشر الأخيرة في العراق. ولا ينقصها حتى الآن إلا تعيين سفراء أو ممثلين عنها في الدول الأخرى، وربما يأتي يوم نرى فيه أحد قادتها يصعد إلى منصة الخطابة في مبنى منظمة الأمم المتحدة، لإلقاء كلمة عن الديمقراطية والتسامح الديني وارتياد الفضاء الخارجي وحماية المناخ!
في العادة، تكون الميليشيات تنظيمات مسلحة خارج سياق القوات المسلحة الحكومية؛ لكن الميليشيات العراقية – مثلاً – جزء من القوات المسلحة الرسمية؛ تسليحاً وتمويلاً وتدريباً؛ بل إنها في بعض المفاصل أقوى من القوات النظامية، مثل قطاع السجون والمعتقلات والاغتيالات والانفجارات، ولها حق لم يملكه الجيش العراقي في كل تاريخه المئوي، وهو تصدير النفط واستغلال المواني للتصدير والاستيراد ورسوّ البواخر، ومنافذ الحدود الجمركية، واستيراد السيارات التجارية. وكذلك المطارات بمعظم عائداتها المالية. ووصل الأمر إلى السيطرة على كافيهات، وعبّارات نهرية، ومدن ألعاب، وملاهٍ ليلية، وتجارة المخدرات والمشروبات الكحولية. وقد قلتها سابقاً: دولة قوية مارقة داخل دولة رخوة وهشة وإسفنجية.
وما قلته عن الميليشيات العراقية يمتد إلى ميليشيات «حزب الله» في لبنان، وميليشيات «فاطميون» و«زينبيون» الطائفية، وغيرهما في سوريا، والميليشيات الليبية التي أعادت البلاد إلى أيام الاحتلال الإيطالي الأسود، وميليشيات الحوثي في اليمن الذي كان سعيداً!
وقد نستطيع حشر الميليشيات الصومالية معها، وإن كانت عصابات بدائية مفلسة حَصَرَت نفسها في دائرة قراصنة البحار، بعد أن انتهى زمن أعلام الجمجمة والعظمتين منذ قرون.
يُخيّل لي أن البيت الأبيض في واشنطن يضحك من نفسه أحياناً، وهو يتذكر حاملات الطائرات الحربية وهي تخترق أمواج المحيطات والبحار والخلجان، لتصل إلى مواقع استراتيجية تطلق منها طائراتها القاصفة وصواريخها الذكية على العراق، ليلاً ونهاراً، لتحقيق «نصر» ضيق الأفق محدود الهدف قاصر النظر، في تلك الأيام السوداء من عام 2003، ثم تُهدي ذلك «النصر» المشلول، في ساعة غياب الوعي، إلى النظام الإيراني بفيلقه السليماني وعمائم ملاليه، ثم الأدهى من ذلك والأتفه، إلى الميليشيات الغوغائية المنفلتة والمتوحشة الموالية لإيران؛ تنظيماً وتسليحاً وعدوانية.
في التعريف الأكاديمي، نقرأ أن «الميليشيا جيش غير منضبط، تشكله قوات غير نظامية، يعمل بأسلوب حرب العصابات»، أو تكون من ناحية تاريخية تعمل بأسلوب «الساموراي» الياباني، أو «فرسان أوروبا» مع بداية القرن العشرين، وهم أعضاء مقاتلون محترفون، مع بقاء حالهم كمقاتلين «عند الطلب»، أو قوات تابعة للجيش النظامي، كما هي الحال في الصين وسويسرا، أو منظمات مسلحة تابعة لأحزاب أو حركات سياسية، مثل «المقاومة الشعبية» التابعة للحزب الشيوعي العراقي، بعد قيام النظام الجمهوري العراقي في عام 1958، أو «الحرس القومي» التابع لحزب «البعث العربي» العراقي في عام 1963، أو «الجيش الشعبي» التابع لتنظيمات حزب «البعث» في العراق، عند بدء الحرب العراقية – الإيرانية في عام 1980؛ لكن هذه التنظيمات الثلاثة كانت تعمل تحت سمع ونظر وقوانين الدولة ونظامها السياسي.
لقد ارتبط اسم «الميليشيات» في الماضي بالأنظمة التي تكمم الأفواه وتحجر على الأحرار، مثل الميليشيات التي شكَّلها النظام الفرنسي في عام 1940 تحت الاحتلال الألماني، وبالتعاون مع «الغستابو» الهتلري، بهدف اعتقال الناشطين في المقاومة الفرنسية، أو تسليمهم إلى الألمان. وفي العادة تكون الميليشيات أقل تدريباً ومهارة قتالية من قوات المرتزقة، مثل فرق الموت الأميركية المدعومة من قبل وزارة الدفاع (البنتاغون) مالياً وعسكرياً، ومهمتها زرع الموت والدمار والقتل في العراق وغيره، بعد الاحتلال الأميركي، كما وصفتهم مجلة «ماريان» الفرنسية. وقد وصل تعداد تنظيمات المرتزقة الأجانب في العراق وأفغانستان خلال الاحتلال الأميركي، إلى أكثر من نصف القوات الأميركية النظامية. وتكرر الأمر في سوريا وليبيا مع شركات أميركية وفرنسية وروسية وتركية.
وبلغ الإنفاق الأميركي على المرتزقة 40 مليار دولار سنوياً؛ حسب تقرير منظمة «أوبن ديموكراسي» البريطانية، ويشمل ذلك القتال وزرع الألغام وجمع المعلومات والتجسس الإلكتروني، وإدارة المفاوضات في حالات خطف ضحايا أميركيين وأوروبيين من قبل دول غوغائية كإيران، أو منظمات إرهابية مثل «طالبان» أو «القاعدة» أو «داعش»، وكذلك حماية الشخصيات المهمة والسفن الناقلة لبضائع استراتيجية. ومن المؤكد أن المرتزقة يتجاوزون القوانين، ويرتكبون أبشع الجرائم، ويفلتون من أي عقاب.
وفي العراق، كانت منظمة «بلاك ووتر» الأميركية تسرح وتمرح في سنوات الاحتلال الأولى، وارتكبت جرائم شنيعة في شوارع بغداد وميادينها العامة، من قتل وتدمير ودهس سيارات مدنية بالدبابات، أو إطلاق القناصة الرصاص على المارة الأبرياء، وقتلهم لمجرد اللهو واستعراض القوة المفرطة. وكان المرتزق الأميركي يتقاضى مبلغ 1000 دولار يومياً وحصانة كاملة، بينما المرتزق الأجنبي من أي جنسية أخرى، وبضمنهم المترجمون وحاملو الخرائط، لا يتقاضون أكثر من 100 – 200 دولار يومياً. وفي حالات خاصة مميتة تمت محاكمة بعض الجنود الأميركيين والمرتزقة، في عهد الرئيسين الأميركيين السابقين جورج بوش الابن وباراك أوباما، إلا أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب أطلق سراحهم في ختام ولايته!
والأمر لا ينحصر في إرهاب «بلاك ووتر» في العراق، وإنما يتعداه إلى شركات أخرى، مثل «دينكورب»، و«تريبل كانوبي»، و«إيرينيس»، و«أرمور غروب»، وأكثر من 630 شركة للمتعاقدين العسكريين، تضم 180 ألف عنصر من أكثر من 100 دولة.
يقول القائم بالأعمال الأميركي في بغداد (1988 – 1991) جو ولسون: «هناك خطر يتربص بخزينة الدولة الأميركية، بسبب السرية التي تكتنف تشغيل المرتزقة في العراق، وبالتالي هناك تأسيس حكومي غير مسبوق لظاهرة استعمال القوة من دون حسيب أو رقيب». وأضاف الدبلوماسي الأميركي: «إن المشكلة التي تواجه التحقيقات في هذه الظاهرة تكمن في السرية التامة المحيطة بالأموال المصروفة على شركات المرتزقة، وغياب الإشراف الحكومي، ما ترك الباب مفتوحاً أمام إدارة الاحتلال، لتستفيد من الفساد والمحسوبية وسياسة تحت الطاولة»، كما نشرت صحيفة «الحياة» اللبنانية في 7 أغسطس (آب) 2007.
وأخيراً: في الدول المتحضرة الهادئة يبرز الوجه الإبداعي من فن وثقافة وآداب وإعلام وسياحة وابتكارات واختراعات، أما في الدول التي تعمُّها الاضطرابات والميليشيات، فليس فيها غير كواتم الصوت والانفجارات والفساد المالي والاجتماعي، والسلطات الأمنية الضعيفة، والحدود المفتوحة، والحكومات المترددة، والخزينة الخاوية، والخدمات المنهارة.
سؤال: إذا كانت جمهورية العراق الحالية واثقة بجيشها وشرطتها ومخابراتها وأجهزتها الأمنية العديدة، فما الحاجة إلى تشكيل ميليشيات من أشباه الأميين والجهلة وتجار المخدرات، وتدريبهم وتسليحهم، وتوفير وسائل نقلهم ورواتبهم وملابسهم وأغذيتهم؟
هنا بغداد؛ هنا دمشق؛ هنا بيروت؛ هنا طرابلس؛ هنا صنعاء؛ لم تخطئ مجلة «الإيكونومست» البريطانية حين قالت: «إن بناء دولة فاعلة يبدأ بحل الميليشيات». وأنا أقول: إن تسريح الميليشيات لا يمكن أن يتم قبل إيجاد فرص عمل مناسبة لكل عضو فيها، ما لم يكن مطلوباً للقضاء، ودخل شهري مضاعف. التسريح السلمي للميليشيات أفضل حل للمشكلة؛ بدلاً من حرب أهلية يخسر فيها الجميع.