من يخرج العراق من قمقم المحاصصة المفرغة؟ وما السبيل إلى ذلك؟
في ظل الصراع المحتدم على المناصب، يشهد العراق أوضاعا أمنية خطيرة وتفشيا للفساد وتراجعا في الاقتصاد.
على وقع المأزق الذي يشهده العراق لتشكيل الحكومة الجديدة التي أعقبت الانتخابات التشريعية المبكرة في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تعاني البلاد جملة من المصاعب أوصلته للوضع الذي هو فيه من تردٍ.
وفي ظل الصراع المحتدم على المناصب، يشهد العراق أوضاعا أمنية خطيرة، لعل أهمها استمرار الهجمات الصاروخية على المنشآت الحيوية للبلاد، واستهداف مقار البعثات الدبلوماسية ومقار الأحزاب، كما أن شتاء العراق هذا العام يعد الأسوأ في ظل انقطاع شبه تام للكهرباء تزامنا مع الثلوج التي تحاصر خيام النازحين.
كل هذا والمشاركون في العملية السياسية يتصارعون على الكتلة الكبرى، ومدى دستورية الجلسة الأولى للبرلمان؟ ومن سيكون له الحق في ترشيح رئيس الوزراء؟ وما نوع الحكومة القادمة؟ وكيف سيتم تقاسم الوزارات الدسمة بمخصصاتها المادية؟ وغير ذلك من الخلافات التي أفرزتها المحاصصة السياسية والطائفية منذ عام 2003.
وفي ظل هذا الوضع، تطرح العديد من التساؤلات عن إمكانية إخراج العراق من المحاصصة بأشكالها التي تسببت في هذه النكبات، وإمكانية ذلك من خلال تعديل النظام السياسي أو تعديل الدستور، والنهوض بالاقتصاد وغيرها من المعالجات، وإمكانية تنفيذها على أرض الواقع.
مشكلة المحاصصة
رغم أن الصراع السياسي الحالي يدور في فلك الكتلة الوطنية الكبرى، فإن كثيرا من المراقبين للشأن العراقي يعدون الحكومة القادمة استمرارا للمحاصصة، على اعتبار أن العرف السياسي المعمول به منذ أول حكومة عام 2006 أسس لتقسيم المناصب الرئاسية الثلاث بين الشيعة والسنة والأكراد، وهو ما يدفع إلى محاصصة الوزارات ودوائر الدولة.
وفي هذا الصدد، يقول رئيس مركز العراق للدراسات الإستراتيجية غازي فيصل إن فلسفة المحاصصة غير دستورية، ولم يشر الدستور إلى تقسيم المناصب والوزارات بين الأحزاب وفق الطائفة والقومية، موضحا أن الأحزاب هي من أسست لهذه المحاصصة السياسية التي أدت للفساد في جميع مفاصل الدولة.
ويتابع فيصل حديثه للجزيرة نت معلقا بتفاؤل أن الانتخابات الأخيرة تمهد لإخراج العراق من المحاصصة التي سيطرت على البلاد منذ 2006، إذ إنه وفق مساعي تشكيل الحكومة من الكتل الأكبر انتخابيا، فإن ذلك يعد أول أمل للخروج من المحاصصة، على اعتبار أن الحكومة لن تضم جميع الكتل، كما في الحكومات السابقة التي لم تواجه أي معارضة برلمانية.
الدستور ونظام الحكم
أقر الدستور العراقي منذ العام 2005 نظام الحكم البرلماني في البلاد، وهو ما يصفه كثير من المراقبين بغير المجدي بعد تجربته لسنوات طويلة. يقول الخبير في القانون الدستوري أمير الدعمي إن العراق بعد 19 عاما على الغزو لا يملك نظاما سياسيا، وإنما عملية سياسية وصفها بـ”المشوهة جدا”، معتبرا أن الخلل يكمن في الدستور أولا ثم في الطبقة السياسية.
ويضيف الدعمي أنه ما لم يُعدل الدستور أو يصاغ من جديد، فإنه لا أمل في انفراجة للوضع، وأنه على امتداد عمر الدولة العراقية منذ عشرينيات القرن الماضي، لم تمر البلاد بهذا الإرباك السياسي والتشظي على الإطلاق.
ويرى الدعمي أن الحاجة باتت ملحة لتحويل نظام الحكم إلى رئاسي مباشر، ينتحب فيه الرئيس من قبل الشعب، ثم تجري انتخابات تشريعية، يكلف الرئيس بعدها رئيس وزراء بتشكيل الحكومة حتى يكون الأخير بعيدا عن الابتزاز البرلماني ومن أجل إفساح المجال لرئيس الجمهورية لإقالة الحكومة في حال فشلها، وبغير ذلك ستستمر حالة عدم الاستقرار السياسي المنتجة لبقية الأزمات على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والخدماتية.
على الجانب الآخر، وبالعودة إلى غازي فيصل فإنه يرى أن المشكلة لا تتعلق بنوع نظام الحكم قدر ارتباطها بالكتل السياسية التي عطلت كثيرا من مشاريع القوانين التي أوجب الدستور إقرارها لضبط إيقاع الحكم في البلاد، والتي إن طبقت ستحسن من عمل النظام البرلماني.
ويستدل فيصل على ذلك بالجدل الحاصل حول ترشيح وزير الخارجية والمالية السابق هوشيار زيباري لمنصب رئيس الجمهورية، رغم أنه أقيل من منصبه سابقا لتورطه في قضايا فساد بعد تحقيق برلماني لم يكشف النقاب عنه.
إمكانية تعديل الدستور
وفي ظل الحديث عن نوع نظام الحكم في البلاد، وإمكانية تعديل الدستور، يحدد الخبير القانوني علي التميمي شرطين لإصلاح وضع البلاد، أولهما التحول للنظام الرئاسي بعد “فشل” النظام البرلماني في العراق والذي يحتاج لنظام اقتصادي قوي ووعي سياسي من الأحزاب والشعب، على حد قوله.
ويرى التميمي في حديثه للجزيرة نت أن تحويل نظام الحكم إلى الرئاسي يتطلب تعديل الدستور أو كتابة دستور جديد مؤقت للبلاد، وهي مشكلة أخرى تكمن في استحالة تعديل الدستور الحالي في ظل العوائق التي وضعت فيه خلال كتابته وتتمثل في شرط عدم اعتراض 3 محافظات عليه.
أما عن الشرط الثاني الذي وصفه التميمي بالأكثر واقعية، فيتمثل في إعادة صياغة قانون تشكيل الأحزاب المشرّع عام 2015 والذي نص على أن من يجمع ألفي توقيع، فإنه يمكن أن يشكل حزبا سياسيا، بما جعل من أعداد الأحزاب في العراق يزيد عن 400 حزب، مع غياب القيود الرصينة على تشكيلها.
ومن غير المنطقي عدم وجود معايير حقيقية للترشيح لمجلس النواب، بما جعل كثيرا من الأشخاص نوابا في البرلمان العراقي دون أن تكون لديهم أي خبرة في أي مجال كان، على حد قول التميمي.
المشكلة الاقتصادية والقانونية
ويذهب في هذا المنحى أستاذ الاقتصاد بالجامعة العراقية عبد الرحمن المشهداني، الذي يضيف أنه لا يمكن التخلص من المحاصصة على اعتبار أن الألغام التي وضعت في الدستور لا يمكن تجاوزها، كما لا يمكن تعديل عدد النواب في البرلمان، ولا يمكن تحويل النظام السياسي إلى رئاسي كونه مقرًّا في الدستور.
ويرى أنه إذا ما استمرت هذه الأوضاع، فإن أعداد أعضاء البرلمان قد ترتفع إلى أكثر من 400 نائب في حال إجراء التعداد السكاني، بما سيزيد من إرهاق الموازنة العامة للبلاد وترسيخ المحاصصة في الوقت ذاته.
وعن الوضع الخدمي في البلاد وغياب الطاقة الكهربائية وسط موجة برد قارص يشهدها العراق، أوضح المشهداني في حديثه للجزيرة نت أن العراق أنفق أكثر من 80 مليار دولار على قطاع الكهرباء طيلة السنوات الـ19 الماضية دون أي تحسن فعلي، لافتا إلى أن جميع الحكومات والأحزاب تتحدث عن هذا الملف دون تقديم أي مسؤول للمحاسبة.
وعزا ذلك لنظام المحاصصة الذي يقف عائقا أمام أي محاسبة للمسؤولين الفاسدين، وبالتالي لا يمكن معالجة الملف الاقتصادي دون معالجة الملف السياسي الذي يرتبط به ارتباطا كاملا، مستدلا بأن أي تطور اقتصادي في أي بلد لم يحدث قبل القضاء على الفساد السياسي في تلك الدولة.
ويتفق مع هذا الطرح علي التميمي، الذي يضيف أن مشكلة العراق القانونية تتمثل في عدم تعديل القوانين المهمة، فضلا عن أن تشريع الجديدة منها يفتقر للرصانة بما يجعلها ضعيفة وغير مناسبة، وهو ما ينطبق على قانون العفو الذي ما يلبث أن يشرع حتى يعدل مرة أخرى، وهو ما لم يحدث في تاريخ الدولة العراقية وأسهم في هروب عشرات المدانين.
الافتقار للتطبيق
على النقيض من ذلك، يؤكد الخبير القانوني طارق حرب أن مشكلة العراق لا تكمن في افتقاره للتشريعات أو القوانين، بل في تطبيقها، وأن البلاد فيها كم نوعي من القوانين، إلا أن المشكلة تكمن في عدم إمكانية تطبيق القوانين بحذافيرها في ظل استشراء الفساد المالي والإداري وفساد الذمم.
ورغم الانتقادات الكبيرة للمنظومة التشريعية وتطبيق القانون، فإن حرب -في حديثه للجزيرة نت- بيّن أن مشكلة البلاد تتمثل في الموظفين الفاسدين في جميع مفاصل الدولة، والتي تعرقل تطبيق القوانين من خلال تلاعبهم بالأدلة والشهود وغير ذلك.
للخروج من الأزمة
تتعدد الآراء التي تقود إلى طرق إخراج البلاد من مشكلاتها، فما بين من يرى ضرورة تعديل الدستور ونظام الحكم وصعوبات ذلك، هناك من يرى بارقة أمل في الحكومة القادمة، وهو ما يؤكده رئيس مركز العراق للدراسات الإستراتيجية غازي فيصل بأن البلاد تمر بنقطة تحول حقيقية، جميع التوقعات فيها مطروحة.
ويضيف أن على الحكومة المقبلة إجراء تغييرات جوهرية، أهمها ضبط السلاح المنفلت، وإنهاء المكاتب الاقتصادية للأحزاب، والشروع بحملة حقيقية لضبط الفاسدين ومحاسبتهم، واستعادة الأموال، وبخلافه سيتجه العراق إلى ما هو أسوأ بكثير، وفق فيصل.
أما المشهداني فيبدو غير متفاءل على الإطلاق، إذ يستبعد احتمال الإصلاح حتى لو تشكلت حكومة أغلبية سياسية، وبالتالي لا يمكن إجراء أي اصلاح اقتصادي في ظل حماية الفاسدين سياسيا، لافتا إلى أن هناك مئات القضايا للفاسدين في هيئة النزاهة دون قدرة الهيئة على التحرك، ومتوقعا أن عمر الحكومة القادمة لن يستمر أكثر من عام واحد، في ظل التشنجات الحالية، وبالتالي فكل الاحتمالات واردة بما فيها انهيار البلاد.
أكثر قتامة
ويبدو الوضع أكثر قاتمة لدى المعارض السياسي أحمد الأبيض، الذي يعتقد أن خروج العراق من وضعه يكمن في نقاط عدة، من بينها ما تشهده الساحة الدولية الآن من إعادة رسم الخرائط وتوزيع النفوذ الدولي في مختلف المناطق وبما سيؤثر ويشمل العراق.
وأوضح الأبيض للجزيرة نت أن الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي في نوفمبر/تشرين الثاني القادم التي يبدو أن الجمهوريين سيشكلون الأغلبية فيها ستغير الواقع في الشرق الأوسط كونهم أكثر جدية في التعامل مع الملف العراقي والإيراني، لافتا إلى أن الصراع بين واشنطن وطهران، إذا ما تطوّر فإنه قد يكون بادرة أمل لظهور طبقة سياسية وطنية لا تأتمر بأوامر الخارج.
وبغير هذه التوقعات، يرى الأبيض أن “الحراك الشعبي في العراق قادم لا محالة، إلا أنه قد يُستغل من بعض الجهات السياسية بما يتجه بالبلاد نحو التقسيم إلى أقاليم على أسس طائفية وإثنية، وهو ما تطمح إليه بعض الكتل السياسية المشاركة في البرلمان”.
وعلى الرغم من قتامة الوضع السياسي، فإن أستاذ العلوم السياسية في جامعة جيهان بأربيل مهند الجنابي يرى أن المحاصصة السياسية في الحكومة القادمة ستكون مقتصرة على الكتل المشكلة للحكومة، وبالتالي هناك تراجع للمحاصصة قد تقود لتحسين الخدمات والأوضاع في البلاد.
وعن النظام السياسي الحالي، يرى أنه وصل إلى مرحلة العجز عن أداء مهامه، وبالتالي هناك خياران فإما تفعيل الدستور فعليا، وإما تحويل النظام إلى رئاسي، وهو ما يبدو غاية في الصعوبة وفقا للدستور الذي وصفه بـ”غير المرن”.
ويرى أن الحكومة المقبلة ستكون آخر فرصة للنظام السياسي الحالي، وبغير ذلك فإن البلاد ستتجه للفوضى والثورة الشعبية، لاسيما مع وجود كم كبير من السلاح المنفلت غير القانوني، على حد قوله.المصدر : الجزيرة