اخبار سياسية

بغض النظر عن احتمالات الحرب… خسرت روسيا أوكرانيا استراتيجياً

03-02-2022 | 05:00 المصدر: النهار العربيسمير التقي

الجيش الأوكراني الى الحدود

A+A-يرجح كثير من التوقعات حرباً وشيكة في أوكرانيا. لكن التنبؤ بالاحتمالات الفعلية يبدو أكثر تعقيداً، إذ يظهر سجل إدارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن قرارات الغزو تستند الى جملة من الحسابات المضبوطة، ويوصلنا تحليل سوابق الغزوات الروسية الى جملة من العوامل المتحكمة بالقرار النهائي. 
 وفي حين لا تخفي ادارة بوتين نواياها العدائية، فإن القرار النهائي بالغزو يصدر بحصافة! وتدل التجربة الى أنه ما لم تكتمل عناصر حسابات التفاضل والتكامل فإن الكرملين لا يغامر. ومن خلال تحليلنا نستنتج جملة من العوامل الحاكمة.  العامل الأول الرئيسي، هو قد ما يوفره قرار الغزو من تعظيم للقوة النسبية لروسيا على الصعيد الدولي. فروسيا الراهنة ضعيفة، بالنسبة الى حجمها ومواردها، وضعيفة بالنسبة الى مخزونها الحضاري الثقافي والعلمي العظيم. إنها لا تزال تعتمد على تصدير المواد الخام ولا يشكل اقتصادها في أحسن التقديرات 4.5 في المئة من الاقتصاد العالمي. وبهذا المعنى فهي تندرج ضمن تصنيف الدول النامية. وباستثناء السلاح ليس ثمة حضور للتقنية والعلم الروسيين. والأهم هو أن تحالفاتها ضعيفة وحلفاءها غير ثابتين وضعفاء. لتعويض هذا الضعف في القوة المطلقة، تميل روسيا الى اكتساب القوة النسبية من خلال زعزعة وحدة خصومها. فقوة خصوم روسيا هي في وحدتهم عبر منظومات مترابطة من التحالفات الاستراتيجية-العسكرية أو الاقتصادية أو القيمية الأخلاقية المشتركة. وتصبح روسيا أقوى نسبياً إن تمكنت من ان تجعل خصمها أضعف نسبياً.  العامل الثاني توافر الدعم الداخلي للغزو، فحين غزا بوتين جورجيا لم يكن الدعم الداخلي كافياً فتوقف عند المدى الذي وصلت اليه الميليشيات في اوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. وحين كان الدعم أوفر في القرم لم يتردد في إعلان غزوه للقرم مباشرة ثم استقلاله عن أوكرانيا ثم ضمه.  العامل الثالث هو احتمالات الرد العسكري المتوقع ونمطه. ففي حالات كثيرة رفع فيها الكرملين مستوى تهديده ضد بعض البلدان ووصل الى حد التهديد، لكنه تراجع أمام دول صغيرة مثل أستونيا أو أوزبكستان أو قرغيزستان. وبالطبع أمام دول مثل تركيا وإسرائيل حين تعارضت الأجندات.  العامل الرابع: ألا تكون التكاليف السياسية والاقتصادية المتوقعة كبيرة بما قد ينعكس بشكل سلبي على الدولة والمجتمع الروسيين.  لكن العامل الخامس يبدو هو الأهم في القرار النهائي للغزو. ولا يتعلق هذا العامل بمدى خدمة هذا الغزو للأغراض الاستراتيجية للكرملين، بل من وجهة إمكان إنجازه من دون تكاليف في الأرواح. إذ لطالما تساءل الباحثون، لماذا تلجأ دولة كبيرة بقدرات روسيا، لاستخدام الميليشيات وقوات “فاغنر” والحرب الهجينة وهي عادة أدوات الضعفاء ضد الأقوياء. وحقيقة الأمر، أن شعبية بوتين داخل روسيا تنبع من كونه يربح ويتوسع ويقضم دولاً من دون أن يدفع الكثير من الضحايا. فالرأي العام الروسي هو بالتعريف معادٍ بقوة للحرب ولخسارة الأرواح. في حين تسمح الحرب الهجينة بخوض المعارك بأقل قدر من الخسائر الرسمية أو المعلنة. لقد جرب بوتين ذلك في حالات كثيرة من غرق الغواصات في البلطيق إلى الحرب في سوريا، لكن طالما أن بوتين يربح من خلال التهديد ومن دون خسائر في الأرواح فلا بأس. في الحالة الأوكرانية الراهنة، كان بوتين يراهن أولاً على وهن الموقف الأميركي وثانياً أن يتمكن من دق أسفين في التحالفات الغربية. وفي ذلك يراهن على عوامل عدة: أولها الإيحاء بأن الأزمة من صنع الولايات المتحدة وبالتالي يمكن لأوروبا أن تتنصل من تبعاتها وتقف على الحياد. ثانياً يراهن على الضعف التاريخي للتضامن الأوروبي، وبشكل خاص على اختراق روسيا للجسم الأوربي عبر علاقات عميقة مع بعض التيارات السياسية اليمنية أو اليسارية المتطرفة أو الأوساط الأوليغارشية الفاسدة. لكن هذا الرهان لم يتحقق لا تجاه الضعف النسبي في الموقف الأميركي ولا تجاه تزايد الانقسام الأوروبي. ورغم تاريخ أوروبا في التحارب بين شعوبها فإن لا شيء وحّدها في الاتحاد الأوروبي أو الأطلسي بقدر تهديدات ستالين. 
أما عامل الدعم الداخلي، فلقد أظهرت التطورات أن حالة الاستنفار والغضب بين غالبية الأوكرانيين ضد التهديد الروسي وصلت الى كل بيت وعائلة. واستعدت أوكرانيا بأسرها للغزو بالتحضير لجعل الاحتلال مؤلماً بشكل دائم ومستمر عبر حرب عصابات معقدة وحديثة، كما حصل للأميركيين في العراق. فلئن كان الانتصار التقليدي غير ممكن فليكن الاحتلال مؤلماً بشكل لا يحتمل. ودعمت كل الدول الأوروبية هذه الاستراتيجية وعززتها بالقوى البشرية وبنوعية الأسلحة والخطط والدعم المعلوماتي.  بالتالي وبفضل الدعم من دول “الناتو” الأوروبية أصلاً التي يوحّدها التهديد، لم يعد بالإمكان تحقيق النصر ببضع آلاف من ميليشيا ترتدي زياً شبه عسكري وتتقدم بمدرعات روسية. لقد انتهى هذا السيناريو وما لم تنخرط روسيا سيكون من الصعب تصور تحقيق أي من الأهداف المحتملة للغزو. وضمن حسابات التكامل والتفاضل لا يستطيع بوتين المغامرة بخسارة أعداد كبيرة من الشباب الروسي. بل الأخطر من ذلك، صار الرأي العام في كل من السويد والنمسا وفنلندا أكثر إصراراً على الانضمام الى الحلف الأطلسي.  وبذلك، بالإضافة الى ما قامت به أوروبا وأميركا من رفع مؤكد لكلفة الغزو المحتمل، بدأت الخسائر الاقتصادية والسياسية تتحقق فعلاً منذ الآن. الأمر الواضح أن روسيا خسرت قدرتها على الهيمنة على أوكرانيا مرة أخرى. والواضح أيضاً أن “الناتو”، رغم استعداده الحتمي لتخفيض التهديد الاستراتيجي لروسيا في أوروبا، إذ لا أحد مهتم بتهديد روسيا. لكن في المقابل، لن يتخلى “الناتو” عن تشجيع تقدم الرايات البرتقالية نحو الحدود الروسية.  وبعد، هل تحتاج اليابان أو إسرائيل الى دخول “الأطلسي” كي تضمن تحالفها مع الولايات المتحدة والغرب؟ يعرف بوتين أن القضية ليست قضية دخول الحلف. من هذا المنطق، يبقى سؤال الغزو الروسي لأوكرانيا قائماً، إذ بعد أن خسر بوتين أوكرانيا لعقود، وباتت التكاليف جدية، كيف سينزل بوتين عن السقف العالي الذي صعد اليه أمام شعبه وحلفائه؟