ماذا يريد المسلمون الشيعة عندما يطالبون بـ”الحرية”؟
06-02-2022 | 07:48 المصدر: النهار العربي
من احتفالات شيعة السعودية بعاشوراء
A+A-بدايات الثمانينات من القرن المنصرم وأواسطها، كانت مواكب العزاء، تعجُ بها الشوارع المحيطة بـ”حسينية العوامي”، في قلب “القلعة” القديمة في محافظة القطيف، شرق السعودية؛ فيما المعزون تأخذهم الحماسة في ندبِ أبي عبد الله، الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، والبكاء عليه، وهم يحيون مراسم عاشوراء. كانت الصدور تضرب على إيقاع فيه من الوجع الكثير، إلا أنه في الوقت ذاته، كان هذا “العزاء” إشارة واضحة إلى رغبة في إثبات الذات، والقول إننا شيعة آل بيت رسول الله محمد بن عبد الله. هي عملية إثبات للذات مقابل ما يشعرون به من نفي وإقصاء مارسه التيار “المتشدد” المختلف مذهبياً. وهذا المختلف لم يكن السعودي “السني” العادي الذي طالما عايشوه وشاركوه الزاد والمجلس والتجارة ومقاعد الدراسة والعمل سوية، الذي لم يكن متحزباً، ولا يكن لهم إلا التقدير والاحترام، والذي ربطته صداقات ومودات كبيرة مع أبناء القطيف والأحساء، وكان أخاً لهم، يدخل منازلهم، ويشاركهم في أفراحهم وأتراحهم، وإنما من كان يمارس الإقصاء، هم تحديداً رجال الدين المتشددون، الذين يعادون كل مذهب وتيار لا يوافق رؤيتهم، ولذا نشطوا في رمي الشيعة الإثناعشرية، والإسماعيلية، والصوفية، بالشركِ والضلال والغيَّ! بل لم يسلم منهم حتى من هم من المدرسة الفقهية ذاتها، واختلف معهم في بعض التفاصيل، ليرجموه بالفسق والانحراف، وإن كان أخاً أو قريباً!
ذاكرة عاشوراء!
أتذكر تلك المواكب الحسينية جيداً، وأنا طفلٌ صغير خلال سني عمريَّ بين الخمسِ والثماني، كون تلك الصور المنطبعة في ذهنيَّ، أتت بعد ما عرف بـ”أحداث القطيف”، التي وقعت في محرم العام 1400 هـ، متأثرة بظروف عدة، إلا أن ما أشعل شرارتها هو الحدث الإقليمي المفصلي العام 1979، عندما سقط نظام الشاه محمد رضا بهلوي، وعاد السيد الموسوي الخميني من فرنسا إلى إيران، محمولاً على أكتاف الثوار.
شرارة “الثورة الإيرانية”، التي تفاعل معها مسلمون شيعة وسنة، وعربٌ يساريون وقوميون، لامست شيئاً في وجدان الناس، الذين كانت شريحة منهم متذمرة من بعض التصرفات المذهبية لرهطٍ من الطائفيين الخارجين عن الخطاب الوطني، والذين استغلوا وجودهم في بعض المواقع لممارسة سياسات “سلبية” تجاه المواطنين الشيعة، وحرمانهم من فرصٍ كانوا يستحقونها، أو منعهم من تداول كتبهم الدينية، وهي سلوكيات إقصائية خارج إطار القانون، وتعميم لخطابٍ أحاديٍ مضرٍ بالسلم الأهلي، لا يتوافق والرؤية التي أتى بها المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن، والذي كفل لمواطنيه الشيعة حق ممارسة الشعائر الدينية والعيش الكريم، وهم بادلوه الولاء ودخلوا تحت إمرته طوعاً لا كرهاً، وهذا النهج العادل للملك للمؤسس، هو ما يؤكد عليه بوضوح تامٍ الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، من أن جميع السعوديين سواسية، ولا فرق بينهم.
ما وراء الشعار!
في المواكب، كان هنالك شعارٌ ما أن يرفع، حتى تصدح به الحناجر، بحماسة كبيرة، يردده المعزون بصوتٍ واحد: “نحن شيعة جعفرية، وما نريد إلا الحرية”.
البعض كان يخشى هذا الهتاف، ويعتبره سياسي الطابع، خصوصاً إذا تلازم معه هتافان آخران، وهما: “دين النبي واحد ما فيه تفرقة، أنظر إلى القرآن شوف الموعظة”، والآخر: “لو قطعوا أرجلنا واليدين، نأتيك زحفاً سيدي يا حسين”.
لقد كانت هذه الشعارات تحمل إشارات سوسيولوجية في عمقها، أكثر من مظهرها الديني – الطقوسي؛ لأنها تفصح عما في وجدان الناس، وما يقلقهم، ليخرج ذلك إلى العلن في محفل جماعي، فـ”الإنسان مخبوء تحت طي لسانه، لا تحت طيلسانه”!
الحرية، المساواة، التضحية! كانت تلك هي القيم الأساسية التي تختزل الهتافات أعلاه، والتي لم يكن هنالك من استطاع – حينها – من التيارات الدينية أن يحولها إلى مشروع وطني يستطيع تلبية احتياجات المواطنين، وتحقيق المساواة والعدالة، تحت كنف الدولة، لا تحت مظلة الطائفة، لأن الدولة هي الحاضنة الأساسية التي يجب أن تنتظم فيها المكونات المذهبية والعرقية المختلفة، منعاً لحدوث التصدعات الاجتماعية. من دون إغفال أدوار مهمة قامت بها شخصيات علمية ووطنية في محافظة القطيف، مثل الراحل الشيخ عبد الحميد الخطي، والراحل السيد حسن العوامي، وعدد من الوجهاء الذين كانوا ضد “تثوير المذهب”.
الشيعية الثورية!
من هنا، وجد “الإسلام الشيعي الثوري” الأرضية مواتية لأن ينثر فيها بذوره، بوصفه الحامي، الساعي الى تحقيق أحلام أبناء الطائفة، ودرء الخطاب السلفي المتشدد عنهم؛ وكان ذلك هو المدخل الأكثر سهولة، والأبسط إقناعا، والأشد تأثيراً. وهنا خطى “الإسلام الحركي” خطواته الأولى الأكثر قوة في الوسط الإجتماعي السعودي – الشيعي، بعد أن كان التدين قبل ذلك يأخذ نمطاً كلاسيكياً تقليدياً، وليبدأ الصدام بين الفريقين.. فريق يتبنى رؤية تقول إن “سياستنا عبادة، وعبادتنا سياسة”، وآخر يعتقد بوجوب الفصل التام بينهما، وأن النظام يجب أن يحترم، وأن يكون هنالك تواصل مع مؤسسات الدولة من أجل تحقيق مصالح المواطنين!
تعقيدات المرحلة!
بالتأكيد، كانت هنالك تعقيدات عدة، اجتماعية، أمنية، ثقافية، اقتصادية، مذهبية؛ وجميعها تشابكت في ما بينها، لتجعل الإجابة عن السؤال البسيط، أكثر صعوبة، وهو: ماذا يريد المسلمون الشيعة عندما يطالبون بالحرية؟ أي حرية تلك التي كانوا يسعون من أجل الحصول عليها؟
الحرية التي كانت ترفع شعارا في عاشوراء، كما كنت أفهمها وأنا صغير حينها، هي: حرية أن يؤمن الشيعة بعقائدهم من دون خوف أو قلق أو إكراه. أن يبكوا أئمة آل البيت في مناسبات الوفيات، ويفرحوا لهم أثناء احتفالات المولد النبي الشريف ومواليد بقية ذريته؛ أي باختصار “حرية إقامة الشعائر” وتوفر الكتاب الديني الشيعي، من دون منع من رجال الرقابة الذين كانوا يرون في تلك المؤلفات حياداً عن جادة الإسلام الصحيح.
تضاف الى ذلك، حرية الحصول على فرص عملٍ متكافئة، من دون التوجس منهم في قطاعاتٍ دون أخرى، أو فتحِ أبواب وغلق بعضها، وتجاوز “التحريض” الذي كان يمارسه المتشددون من وجوب إبعاد الشيعة عن المناصب العليا أو الحساسة، كونهم “عملاء لإيران” كما يزعم هؤلاء، وهي الفرية الكبرى، التي كان الهدف منها ليس صون “الدولة” وإنما الاستحواذ وبسط النفوذ! وهي سياسة تتناقض مع خطاب الحكومات السعودية المتعاقبة، التي تؤكد أن “الوطن للجميع”، إلا أن التيارات “الصحوية” و”السرورية” كما “الإخوان المسلمين”، والتي تريد الوصول إلى “الحكم” كانت تعمل على تمكين عناصرها، واستبعاد من هم خارج دائرتها.
هذا ما كنت أفهمه وأنا فتى في مقتبل العمر، وربيت عليه، وأعتقد جازماً، أن هذا الشعور كان في وجدان جميع أفراد جيلي، الذين عايشنا الصحوتين: السنية والشيعية، وكنا في خضم أجواء الحرب العراقية – الإيرانية التي أرخت بظلالٍ سلبية على منطقة الخليج العربي، لا تزال تداعياتها حتى الساعة.
العيش بسلام!
أستطيع القول بضرسٍ قاطع، إن الحرية لم تكن تعني لنا حينها التمرد على السلطة، أو مواجهة نظام الحكم، أو الرغبة في “إسقاط النظام”، وهي الشعارات التي تبنتها الحركات المسلحة والمجموعات الإرهابية التي ظهرت بعد أحداث “الربيع العربي” العام 2011، أو تماهت معها تشكيلات حزبية مثل: “منظمة الثورة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية”، و”حزب الله الحجاز”، و”تجمع علماء الحجاز”.
لقد كنا نعيش وضعاً اقتصادياً مستقراً، وكنا نراقب التطور العمراني الذي تشهده المنطقة الشرقية، ونأنس بالتنقل بين مدنها: القطيف، الدمام، الظهران، الخبر، الجبيل، رأس تنورة.. كانت مدننا الأثيرة التي حملت الكثر من الذكريات الجميلة.
طالما تسمرت أمام شاشات التلفزيون وأنا أستمع لأحاديث الراحل الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، وأعجب بطلاقة لسانه وقدرته على الاسترسال، وكثيراً ما تقافزت فرحاً عندما يفوز المنتخب السعودي الوطني في مباريات كرة القدم، وكنت أذهب مع والدي إلى الدمام والخبر والجبيل في رحلاته التجارية عندما كان يسوق ويبيع منتجات مؤسسة العائلة؛ من دون أن أشعر أني غريب عن هذه المدن، أو أن حاجزاً مذهبياً يقف أمامي!
تحقيق الأمل!
لقد كنا طبيعيين جداً، إلا أننا كُنا ضحايا “التيار المتشدد” الذي اختطف السعودية لنحو 40 عاماً، والذي أعلن الأمير محمد بن سلمان صراحة أنه “سوف ندمرهم اليوم وفورا”، مبيناً أن “السعودية لم تكن كذلك قبل عام 1979.. السعودية والمنطقة كلها انتشر فيها مشروع الصحوة بعد عام 79 لأسباب كثيرة، ليس المجال اليوم لذكرها”، مشدداً على أنه “لن نضيع 30 سنة أخرى من حياتنا في التعامل مع أفكار متطرفة”.
هذا “الأمل الكبير” الذي منحه الأمير محمد بن سلمان إلى السعوديين، هو ما علينا جميعاً التشبث به، والعمل على تحقيقه، لأن “الحرية” التي كنا ننشدها ونحن صغار، ها هي الآن، يوماً بعد آخر، يتم تعزيزها، وبناء أسسها، بوصف “المواطنة” حجر الزاوية، بعيداً عن التقسيمات المذهبية والمناطقية والقبائلية؛ وهو ما يجب أن يعيه الجميع، وأن يتجاوزا الإرث السابق، ولا يقفوا عند سلبياته، وأن يدركوا أن عملية الإصلاح التي رافعتها “رؤية 2030” تحتاج إلى وقت، وروية، وحكمة، وصبر، وتعاضد جميع الكفاءات من أجل تحقيقها.
“الحرية” هي أن يتحرر الجميع من آلام الماضي، أوجاعه، خوفه، عزلته، ويعيشوا اللحظة والغد، ويبصروا بعقول صافية المتغيرات الكبيرة التي تحصل في المملكة، وطريق ذلك: الشجاعة في خلع رداء الطائفية، شيعياً كان هذا الرداء أو سنياً، والتدثر برداء الوطن.