1

العراق .. عندما يختصم الإخوة الأعداء

آراءعبد اللطيف السعدون

09 فبراير 2022

العراقيون المعروفون بقدرتهم على الصبر والاحتمال بدأوا يفقدون هذه الطاقة في مواجهة أوضاع صعبة، لا قبل لهم بها، مقترنة بسيناريوهات مأساوية تطبّق عليهم على مدار الساعة، فتفقدهم احتمالهم، وتسلبهم قدرتهم على الصبر، وجديد ما يواجهونه اليوم خيبة أملهم في الانتخابات البرلمانية التي أرادوها “مبكّرة”، كي ترسم لهم طريقا آخر، على الرغم من أن النسبة العالية منهم حسمت أمرها منذ البداية، وقرّرت مقاطعة العملية الانتخابية لقناعتها أن لا شيء جديدا يمكن أن يحدُث في ظل القوانين والإجراءات الحالية التي تحكُم هذه العملية. ولا أحد من داخل “البيوت” السياسية الحاكمة يمكن أن يفكّر في قلب الطاولة على رؤوس القابضين على السلطة، ما دامت قسمة المناصب والمواقع والأموال المنهوبة تتم حسب الرؤوس. ولا أحد من خارجها يمكنه أن يعلّق الجرس في الحال الحاضر، ما دامت هناك قوى إقليمية ودولية وحدها تحدّد الرؤية وتملك القرار، وما دامت الظروف لم تنضج بعد لتشكيل قوةٍ شعبيةٍ فاعلةٍ تستطيع تحريك المسار، وليس ثمّة مشروع وطني ماثل يمكن أن يوحد ويؤثر ويغيّر. وقد انكفأت “ثورة تشرين”، وانقسم “الثوار” حول أولوياتهم، وحتى الأحزاب “الثورية” التي سادت في الماضي فقد بادت بفعل شيخوختها وعجزها عن إدراك الحال.

وإذا كان العراقيون يبحثون عن الخلاص، ولو بقشّة، فقد تنادى كثيرون منهم إلى الإمساك بالقشّة التي لوح بها لهم زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، الذي حصل على 75 مقعدا في البرلمان الجديد، طارحا فكرة تشكيل “حكومة أغلبية وطنية لا شرقية ولا غربية”، قال إنها سوف تلتزم بالإصلاح السياسي ومحاربة الفساد وحل المليشيات، وتضع السلاح بيد الدولة، وتتصدّى للتدخلات الخارجية، وتتناغم هذه “الشعارات” الوردية مع ما يطمح إليه العراقيون، وما يسعون إلى تحقيقه، لكن الشكوك تراودهم في حقيقة هذا “الانقلاب” الجديد للصدر، وقد اختبروا، أكثر من عقد، تقلباته الزئبقية، وجمعه بين مواقف بعينها وأضدادها.

لم تنضج الظروف بعد لتشكيل قوةٍ شعبيةٍ فاعلةٍ تستطيع تحريك المسار، وليس ثمّة مشروع وطني ماثل يمكن أن يوحد ويؤثر ويغيّر

وكيفما كان، أشعرت طروحات الصدر رجال “المعسكر” الإيراني الذي يسمّي نفسه “الإطار التنسيقي”، والذي يضم حزب الدعوة و”المليشيات” المرتبطة بالحرس الثوري، بخروجه عن طاعتهم، وإنه يبيت استهدافهم، كما شعرت حاضنتهم الرئيسية إيران بأن تحكّم الصدر بالقرار السياسي سوف يضعف نفوذها في العراق، وما قد يتبعه من خسارة “استراتيجية” لمشروعها في المنطقة، وهو أمرٌ تعتبر دونه “خرط القتاد”. ولذلك سارعت إلى التدخل لفك الاشتباك بين “الإخوة الأعداء”، وبذل قائد فيلق القدس والمسؤول عن الملف العراقي في القيادة الإيرانية، إسماعيل قاآني، جهدا حثيثا في ذلك، لكنه عاد بخفي حنيْن. هنا رسم المرشد الإيراني، خامنئي، مسار الخطوة التالية التي أبلغت لقادة الإطار التنسيقي: “النزول إلى الشوارع، وليكن ما يكون!”. وكان أن حصلت عمليات اغتيال وخطف وتفجير وتهديد من المليشيات، بغرض إرباك السلم الأهلي وإجبار الطرف الآخر على القبول بتسوية.

أدرك الصدر، عندئذ، أن خصومه سيلقون بكل ما في جعبتهم من أسلحةٍ لإفشال مشروعه الإصلاحي، أو على الأقل مطالبته بإعطاء ضماناتٍ بعدم حل المليشيات، وعدم محاسبة زعيم حزب الدعوة، نوري المالكي، عن مسؤوليته في تسليم الموصل إلى “داعش”، وهدر مئات المليارات من الدولارات في أثناء وجوده على رأس السلطة، ولم يكن أمام الصدر سوى خيار واحد، هو قلب الطاولة على الخصوم، عبر مقاطعة جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، ووقف التفاوض معهم.

في هذا المنعطف، يكون الصدر قد ضيّق الخناق على مناوئيه، وفتح الباب أمام مختلف السيناريوهات، ومن بينها ذهاب البلاد إلى فراغ دستوري قد يطول. وإذا كان السياسيون قد اختصموا في ما بينهم، وأوقفوا عجلة مؤسسات الدولة عن الدوران، فما الذي يستطيع المواطنون المغلوبون على أمرهم أن يفعلوه؟

المنطق هو الذي ينبغي أن يسود، وهو ما افتقدته “ثورة تشرين” التي اضطرّت إلى الانكفاء

هنا نستعير سؤال الزعيم والمنظر السوفييتي، فلاديمير لينين، ما العمل؟ وفي الذهن إشاراته اللماحة إلى أن السياسة ليست في فهم الصراع داخل منظومة معينة فقط، إنما هي في فهم الصراعات داخل المجتمع كله، وتجذير الوعي على درء المظالم التي تحيق بالناس، وهذا لن يتحقق اعتباطا، إنما عبر تنظيم فاعل، ومن خلال نظريةٍ تواكب تطور الحياة.

ومع اختلاف الوقائع والتفاصيل، فإن هذا المنطق هو الذي ينبغي أن يسود، وهو ما افتقدته “ثورة تشرين” التي اضطرّت إلى الانكفاء، وهو أيضا ما يكمن وراء فقدان طاقة العراقيين على الصبر والاحتمال، وحتى في تراجع بعضهم عن النضال من أجل حقوقهم بوصفهم بشرا، والرضا بما تمنحه لهم السلطة من فتات.

التعليقات معطلة.