مقالات

الحروب الدولية ليست علاقات عامة

الأربعاء – 8 رجب 1443 هـ – 09 فبراير 2022 مـ رقم العدد [15779]

داود الفرحان كاتب عراقي

طبقاً لاستفتاء أجرته مؤسسة أميركية معنية بالاستفتاءات الدولية، فإن «حجم صناعة العلاقات العامة الأميركية اقتربت في عام 2020 من 20 مليار دولار». ويكفي للمقارنة بين هذا الرقم ورقم تكاليف منظمة «ناسا» الفضائية بين عامي 1959 و1972 التي قُدرت بنحو 22 مليار دولار، ذهب معظمها لصالح برنامج «أبولو» الذي أوصل رواد فضاء أميركيين إلى سطح القمر، لندرك أهمية العلاقات العامة في الأجندة الأميركية.
الذين دخلوا معتركات الإدارات الأميركية السياسية والعسكرية والاقتصادية يصفون البيت الأبيض الرئاسي بأنه «عرين» العلاقات الأميركية من اليابان إلى كوريا إلى الصين إلى روسيا إلى الهند إلى أوروبا، وصولاً إلى أميركا اللاتينية وأفريقيا وأستراليا وجزر المحيطات والبحار. العلاقات العامة بالمفهوم الأميركي لا تعني تناول غداء مشترك أو تبادل زيارات أو تشييع جنازات أو إرسال برقيات في المناسبات، أو خلايا تجسس أو رصد أو مراقبة أو تقارير أو أرقام، كما نفهمها بالتفسيرات الشرقية أو العربية.
تعريفي الشخصي للعلاقات العامة هو أن يقوم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بزيارة جارة القمر فيروز في بيتها، ويبحث معها مسالك حلّ المشاكل اللبنانية. كانت كوكب الشرق أم كلثوم والعندليب عبد الحليم حافظ سلاحي الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في العلاقات العربية العامة. حين أراد الرئيس الأميركي باراك أوباما أن يخوض انتخابات الرئاسة في عام 2009 ظهر في صور ومشاهد تلفزيونية مع المذيعة الأميركية الشهيرة أوبرا وينفري.
لقد التقطت بعض الأنظمة النامية السمكة الصغيرة من السنارة، وفهمت منها أن العلاقات الدولية هي المخابرات أو الأمن أو التحقيقات الجنائية، وهكذا فإن بعض أنظمتنا كانت تطلق على الأجهزة الأمنية صفات «علاقات عامة»، وكل الدول العربية تقريباً كانت تَحذر في الخمسينات والستينات من القرن الماضي من إطلاق تسميات «خطيرة»، اسمها المخابرات أو الاستخبارات وتستعيض عنها بدوائر «العلاقات العامة» لتخفيف ثُقل التخابر والتقارير الأمنية والتجسس الداخلي والخارجي. ولذلك كانت لدوائر العلاقات العامة المركزية في بعض بلداننا سجون ومعتقلات لا يدخلها أي أجنبي إلا إذا كان متهماً. وتدريجياً أصبحت «المخابرات» أو «الاستخبارات» تظهر إلى السطح وتزيح الستائر وتستقبل أجانب وتودع آخرين وتقوم بمهمات كانت وقفاً على وزارات الخارجية والدفاع والأمن الوطني. طبعاً ليس في ذلك ما يعيب، فهي تسميات رمزية قد تتفق مع مهماتها أو لا علاقة لها بها على الإطلاق.
حتى في البلديات المحلية، تم استحداث أقسام للعلاقات العامة، ليست لها أي علاقة بهذا المعنى، لكنها تضم مفتشين في الأسواق عن رفع أسعار الأغذية أو احتكارها أو فسادها. بل أصبح من دواعي التجميل والاحترام أن تكون لكل وزارة دائرة للعلاقات العامة. وأتذكر أن أمانة العاصمة (أي بلدية بغداد) استحدثت في التسعينات دائرة «علاقات عامة» كان من منجزاتها إقامة سجن داخل الأمانة للباعة الجائلين من دون إجازات. وكان أكثر ضحايا هذا السجن أشخاصاً لا علاقة لهم بالسياسة، لكنهم كانوا عابري سبيل وجدوا أمامهم في عز الصيف عربة لبيع عصير العنب المجفف (الزبيب)، فوقفوا وشربوا لتخفيف وطأة الحرّ، فإذا بهجوم مفاجئ من مجموعة عمال تنظيف الشوارع تابعين لأمانة العاصمة تنقض عليهم وتعتقلهم، وتصادر العربة بما فيها من «عصير» لذيذ وكؤوس وملاعق، بينما هرب صاحب العربة خوفاً من الاعتقال أو الغرامة. وظلوا على تلك الحال في المعتقل أياماً إلى أن نشرتُ مقالاً بعنوان «الرجال الذين شربوا العصير»، فضحت فيه وجود سجن في أمانة بغداد ليست له أي صلاحيات لاعتقال المواطنين بتهمة تناول عصير العنب العادي، في حين هرب صاحب العربة خشية اعتقاله من قبل مراقبي «العلاقات العامة» في الأمانة الذين كانوا يرفضون إطلاق سراح الأبرياء إلا إذا اعتقلوا «بائع الشربت». لا علاقة لهؤلاء بالعلاقات العامة غير أنهم جزء من «الفوضى» التي تحولت إلى نكتة، بعد أن أفرج عنهم أمين بغداد مع تحذيرهم من شرب العصير خارج المنزل!
المفهوم في «العلاقات العامة الدولية» هي أنها محاولات لكسب تأييد الرأي العام الداخلي أو الخارجي لنشاط أو قضية أو حركة أو مؤسسة عن طريق الإعلام والإقناع والتكليف والتوافق بين مواقف متناقضة أو متوازية، بحيث لا يناقض أحدها الآخر. ومن التعريفات الدولية أنها تلك الوسيلة الإدارية المستمرة التي تسعى لها المؤسسات والمنظمات الخاصة والعامة لكسب تفاهم وتعاطف وتأييد مستمر قدر الإمكان من خلال قياسات الرأي العام باستخدام الإعلام الشامل. ومثل هذا التعريف مأخوذ به حتى لو اعتبره البعض كلاسيكياً أو بيروقراطياً أو بيئياً لا يصلح لإدارة العلاقات العامة في السياسة الدولية.
يعرف المطلعون أن هناك حركة عالمية مناهضة للأسلحة النووية تعارض التقنيات النووية المختلفة السلمية وغير السلمية. ومن بين هذه الحركات حملات نزع الأسلحة النووية، وأصدقاء الأرض، والسلام الأخضر، والأطباء الدوليون لمنع الحرب النووية. لكن هذه الحركات النشطة لا يعرف أحد لماذا يتم استبعادها من المباحثات النووية الطابع بين الدول؟ لماذا لا تشارك في الضغط على دول طائشة مثل كوريا الشمالية وإيران وإسرائيل؟ هناك حركة عالمية لنزع الأسلحة النووية منذ ستينات القرن الماضي حتى في داخل الدول النووية، لكنها تقف في صفوف العلاقات العامة عند أبواب الفنادق التي تجري فيها مباحثات سياسية نووية بين الدول مثلما يقف الآلاف على أبواب قاعات جوائز الأوسكار السينمائية أو انتخاب ملكات الجمال أو حواجز شوارع سباقات السيارات أو مدرجات ملاعب كرة القدم!
نسمع في هذه السنوات «السعيدة» أن هناك نشاطاً مميزاً لحماية مناخ الكرة الأرضية، وتُعقد باستمرار مؤتمرات واجتماعات ونشاطات لمعالجة الأخطار والأخطاء المحيطة بالمناخ الذي يعيش فيه البشر، سواء على اليابسة أو البحار والمحيطات أو الجبال أو الصحارى أو الأقطاب المنجمدة. وهو نشاط مطلوب، بل إنه «الحسنة» الوحيدة في برنامج الرئيس الأميركي جو بايدن، وهوايته الفريدة التي نعرفها حتى الآن بعد سنة كاملة من ولايته الأولى.
وبتصفح ما مضى من الأنشطة المناهضة لسياسة الأسلحة النووية منذ ما قبل القصف الأميركي الذري لهيروشيما وناغازاكي في عام 1945، نكتشف أن القلق دبّ في العالم أجمع بشأن تجارب هذا النوع من الأسلحة الفتاكة بين عامي 1954 و1963 في البحر والبرّ وحتى الغلاف الجوي، وكذلك بانفجار مفاعل تشرنوبل في أوكرانيا حين كانت في عام 1986 تابعة للاتحاد السوفياتي.
يخيل لكثيرين أن اجتماعات فيينا الحالية حول مفاعلات إيران النووية هي الحل الوحيد للمشكلة، لكن تبين لكل المتابعين الجادين أن هذه المفاوضات هي نوع غير ناضج من العلاقات العامة لمنع الحروب النووية، ومضيعة وقت ريثما تُنهي إيران الملالي استعداداتها وتجاربها وخزينها من القنابل الذرية… وعندها يكون لكل حادث حديث! والمتفرج على ما يحدث في فيينا يجد أنه نوع من التضامن مع طهران إذا لم يقترن بقرارات فورية وآنية وشاملة لا تسمح لها أو لغيرها بالتزويغ واقتناص الفرص وشراء الوقت مجاناً في محادثات عقيمة وشروط خرافية ريثما تنضم إيران إلى المعسكر النووي الدولي، وعندها على العالم أن يسمع ما تقوله طهران جيداً بلا شروط ولا عقوبات ولا اجتماعات.
ما يحدث في فيينا نوع من «التسلية» كالأمثلة التي ذكرتها في بداية المقال عن عربات بيع عصير العنب ودوائر العلاقات العامة. ويا ويلنا من مفاعلات أصفهان بعد أن تهرب إيران بالبضاعة النووية. إذا كانت اجتماعات فيينا «علاقات عامة» كما تريدها إيران، فإن الحروب الدولية النووية وغير النووية والسيبرانية ليست علاقات عامة ولا خاصة.