التعصب كمنتج اجتماعي
الأربعاء – 22 رجب 1443 هـ – 23 فبراير 2022 مـ رقم العدد [15793]
توفيق السيف كاتب ومفكر سعودي
حين تقع نزاعات، فإنَّ الناس يبادرون إلى اتهام من يسمُّونهم «متعصبين». هذا يعني ضمنياً أنَّ الاتجاه العام هو عدم التعصب، أو أنَّ التعصب يعتبر استثناءً من القاعدة الأخلاقية، أو شذوذاً عن العرف السائد. لهذا السبب؛ فليس هناك من يعتبر نفسه متعصباً، أو يتقبل اتهامَ الناس له بالتعصب. أما الجماعات السياسية والدينية، فهي ترى وصمَها بالتعصب نوعاً من العدوان والافتراء. وهذا ينطبق تماماً على مرادفات التعصب، نظير الغلو والتطرف والتشدد والأصولية، وأشباهها.
هذا يثير سؤالاً بديهياً: إذا كان الأمر على هذا النحو، فكيف نبتَ التعصب… هل يمكن لمجتمع متسامح أن ينبت أعداداً كبيرة من المتعصبين، نظير ما شهده العالم الإسلامي في العقود الأربعة الماضية؟
يبدو لي أنَّ التعصب سمةٌ مستقرةٌ في بنية المجتمع. ولولا وجوده لما أمكنَ إطلاقُ وصف التسامح أو الاعتدال على أحد. التسامح والتعصب، كلاهما وصفٌ مقارن، يعرف ويتميز في وجود نقيضه. لكن أستطيع القول إنَّ هناك مجتمعات أكثر تسامحاً من غيرها، أي – بعبارة أخرى – أنَّ هناك مجتمعات أكثر تعصباً من غيرها.
المجتمعات المتسامحة هي التي تتقبَّل – بشكل عام – المختلفين عنها في الدين أو الثقافة أو نمط العيش، أي التي تتسامح تجاه الأفكار الجديدة والقيم المختلفة عما اعتادت عليه. هذا وصف عام، ويمكننا أن نتخيَّل مجتمعات ينطبق عليها الوصف السابق بدرجات أعلى، أي أنَّها متسامحة جداً، ومجتمعات في الاتجاه الآخر، فهي متسامحة قليلاً.
التعصب لا ينبت فجأة. بل هو ثمرةٌ لعوامل توجد في البنية الاجتماعية أو في المحيط الطبيعي، وتؤثّر بدرجات متفاوتة على تفكير الأفراد أو مصادر عيشهم، فتحولهم إلى متعصبين أو متسامحين.
بسبب تعدد العوامل المؤثرة وانبساطها زمنياً، فليس هناك مجتمعٌ كلُّ أفراده متعصبون بالحد الأقصى، وليس هناك مجتمعٌ كلُّ أفراده متسامحون بالحد الأقصى. هناك دائماً من يقع في طرف المسطرة ومن يقع في وسطها، وثمة بين هذا وذاك آخرون، يتحرَّكون باتجاه الوسط حيناً وباتجاه الطرف حيناً آخر.
لا شك أنَّ الثقافة العامة السائدة، وتلك التي يتلقاها الأطفال في البيت والمدرسة، هي أقوى المؤثرات التي تشكّل ذهنية الفرد. لكن لا ينبغي إغفال العوامل الأخرى غير المنتظمة، لا سيَّما الأزمات الكبرى التي تعصف بالمجتمع، نظير الكوارث الطبيعية والحروب والتحولات الاقتصادية الكبرى، والأزمات السياسية طويلة الأمد. كل من هذا يترك أثراً عميقاً في تفكير الفرد ورؤيته للعالم. وهي تحدّد إلى حد بعيد المنظار الذي يرى من خلاله الأشياء… أ هوَ منظارٌ صافٍ (واقعيٌّ) أم معتمٌ (متشائم).
حين تقع أزمة، فإنَّ ذهن الفرد ينفتح على مصراعيه لما تقوله المنابر العامة. المنابر التي تلقي بالمسؤولية على الآخرين، أعداء أو أصدقاء، وتلك التي تقدّم وعوداً بأنَّ جهات أخرى ستتولَّى معالجة المشكلة، تلعب دوراً سلبياً، حيث تعزز الميل التشاؤمي، ومن ثم التوتر النفسي، الذي يترجم على شكل تعصب في فهم الأشياء والتعامل مع الناس. وفي المقابل، فإنَّ القنوات والمنابر التي تحاول تشريح المشكلة إلى أدق التفاصيل، وتؤكد قدرة الإنسان بصورة عامة على حل مشكلاته، أو قابليته لتجاوزها بمرور الزمن، هذه القنوات تحيي الأمل في النفوس وتعزز المنظور الإيجابي للحياة، أي الميل التفاؤلي/ التسامح. غني عن القول، أنَّ التوتر النفسي يعزز الميل للتعصب، بينما السكينة والاطمئنان يعززان الميل للتسامح.