العراق و”قصقوصة” الصدر
15 مارس 2022
من الحساب الرسمي لمقتدى الصدر (تويتر)+الخط–
فجأةً، ووسط هدوء غير معهود على الساحة السياسية في العراق، أعلنت مصادر مقرّبة من زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، أنه أجرى اتصالا هاتفيا بزعيم ائتلاف دولة القانون، نوري المالكي، وأنهما توافقا على ضرورة الإسراع بتشكيل الحكومة العراقية بعد أكثر من خمسة أشهر على إجراء الانتخابات وحالة الانسداد السياسي التي رافقتها منذ تلك الانتخابات. وقد رافقت هذه الحالة من الانسداد تشكيل الحكومة عقب الانتخابات، وتعود، بالدرجة الأولى، إلى رفض الصدر تشكيل حكومة توافقية، واستبدالها بحكومة أغلبية سياسية، رافضا، في الوقت ذاته، أن يكون المالكي وبعض قيادات الإطار التنسيقي؛ جزءا من هذه الحكومة، رافعا شعار “حكومة أغلبية وطنية لا شرقية ولا غربية”. وقد قاد الصدر الذي فازت كتلته بالمركز الأول في الانتخابات بـ 73 مقعدا حراكا سياسيا رفض من خلاله التحالف مع القوى الشيعية التي توصف بأنها مقرّبة من إيران، علما أن الصدر ليس بعيدا عن إيران، ولم يكن كذلك منذ ظهوره زعيما دينيا وسياسيا عقب غزو العراق.
ولكن الصدر، ولأسباب تتعلق بخلافات مع شخصيات داخل الإطار التنسيقي، وضع “فيتو” على عدة أسماء داخل هذا الإطار، رافضا أن يكون لها أي حضور في الحكومة التي يزعم تشكيلها، فسارع إلى عقد تحالف ثلاثي مع كل من مسعود البارزاني وحزبه، الديمقراطي الكردستاني، الذي حلّ رابعا في عدد مقاعد البرلمان، وأيضا مع محمد الحلبوسي، زعيم تحالف تقدّم الذي حلّ حزبه ثانيا في الانتخابات، من حيث عدد المقاعد، ليقطع الطريق أمام قوى الإطار التنسيقي التي قد تفكّر بالتحالف مع السنّة والأكراد، لتشكيل الكتلة الأكبر في البرلمان، ما يخوّلهم اختيار رئيس الحكومة.
التوافق الذي قد ينتهي بتمرير صفقة سياسية جديدة لتشكيل حكومة عراقية دائما ما يكون على حساب العراق الوطن
وسط هذه التقاطعات، تأخر تشكيل الحكومة العراقية بعد الانتخابات منذ أكثر من خمسة أشهر. ثم فجأة تغير كل شيء، وصرنا نعيش لحظات نادرة من التوافق بين الصدر وقوى الإطار التنسيقي التي تضم، بالإضافة إلى نوري المالكي، عدة شخصيات سياسية ومليشياوية شيعية عُرفت بأنها جزء من منظومة إيران في العراق. أما كيف حصل هذا كله فجأة، فإن الناظر إلى القوى السياسية في عراق ما بعد 2003، يدرك جيدا أنها مجموعة من القوى التي تعتاش على أزمات العراق، ولم تكن، في أيّ لحظة بعد هذا التاريخ، قوى سياسية تبحث عن حلّ لأزمة وطن.
راهن بعضهم على الشعارات التي رفعها مقتدى الصدر، ومثّل الإصلاح مركزها، ولكن من دون أن يرى هؤلاء تاريخ الصدر المليء بالتناقضات، والقفز على حبال السياسة تبعا لما تقتضيه مصلحته. كما نسوا أو تناسوا أن لا مشروع سياسيا حقيقيا لدى مقتدى الصدر أو غيره من قوى السلطة وأحزابها في عراق ما بعد 2003. ولعل جولة سريعة في حجم الفساد المالي والإداري الذي تقوم به كل القوى السياسية في العراق تشير، بوضوح، إلى أن لا مجال للتعويل على هذه القوى في إيجاد انفراجةٍ لأزمات العراق المتلاحقة.
التوافق الذي قد ينتهي بتمرير صفقة سياسية جديدة لتشكيل حكومة عراقية دائما ما يكون على حساب العراق الوطن، على حساب الإنسان العراقي الذي يرزح تحت أزمات شتّى، فالحكومات التوافقية التي سيّرت المشهد السياسي في العراق، هي، بتعبير أدق، حكومات لتقاسم المصالح والمنافع، لا لتقاسم الأعباء للنهوض بهذا البلد، فقد أظهرت التوافقية التي حكمت المشهد السياسي في عراق ما بعد 2003 طبقة من الساسة ورجال المال والأعمال، فاسدة، تدعم فسادها بمليشيات مسلّحة تحمي هذا الفساد وتدافع عنه، مع جوقةٍ من الطبّالين والإعلاميين والقنوات الفضائية التي تبرّر كل شيء من أجل الدعم والتمويل.
يبدو هذه المرّة أن القصقوصة لن تمضي في طريقها، بعدما باتت ملامح حكومة توافقية جديدة تلوح في الأفق
تفيد أحدث التقديرات الرسمية في العراق بأن نحو 40% من العراقيين تحت خط الفقر، في حين بلغت نسبة الأميين في هذا البلد الذي علّم العالم الكتابة نحو 47%، وهذا كله غيضٌ من فيض ما يعانيه العراق من فساد يتربّع على عرشه الساسة وقادة الأحزاب والمليشيات.
صحيحٌ أن لقاء الصدر في النجف السبت الماضي مع شخصياتٍ سياسيةٍ تمثل السنّة وبعض قوى الإطار التنسيقي أعقبته “قصقوصة السيد الشهيرة” التي أعلن فيها عبارته “حكومة أغلبية وطنية لا شرقية ولا غربية”. ولكن يبدو هذه المرّة أن القصقوصة هذه لن تمضي في طريقها، بعدما باتت ملامح حكومة توافقية جديدة تلوح في الأفق، حتى لو سعى الصدر إلى تأطيرها بإطار وطني، فبعد هذا اللقاء وتلك “القصقوصة” تعرّضت مدينة أربيل في شمال العراق لقصف صاروخي تبنّاه، وللمرة الأولى، الحرس الثوري الإيراني الذي قال إنه جرى استهداف مقارّ إسرائيلية في المدينة، في عملية هي الأولى من نوعها، والتي يمكن قراءتها رسالة ضغط إيرانية جديدة للأكراد الذين أعلنوا تحالفهم مع الصدر، كما أنها تأتي في أعقاب تعثّر انعقاد الجولة الخامسة من المفاوضات بين السعودية وإيران، والتي كانت مقرّرة في بغداد غداً الأربعاء (16 فبراير/ شباط)، ولذلك كله علاقة مباشرة بملف المفاوضات حول نووي إيران التي تشهد صعوبات على صُعد مختلفة.
سبق للكاتب أن أشار في مقالات سابقة في “العربي الجديد” إلى أن لا خيط فاصلا بين حكومة توافقية وأخرى أغلبية وطنية في العراق، وإن وجد فهو خط وهمي، فكل حكومات ما بعد 2003 توافقية، يجري فيها تقسيم المناصب والمغانم تبعا لعدد المقاعد التي حصل عليها كل حزب في الانتخابات. ويبدو أن هذه المرّة لن تختلف عن سابقاتها، على الرغم من كل ما ردّده الصدر عبر “قصقوصته”، ليبقى السؤال الأهم: هل يمكن أن تصمد حكومة عراقية أخرى تأتي لتقاسم المغانم وتوزيع المكتسبات أمام غضبة جماهيرية كالتي حدثت في أكتوبر/ تشرين الأول 2019؟