عبدالله الأيوبي
لماذا فشلت «سياسة التصفير» التركية؟
في الوقت الذي يحسب فيه لتركيا موقفها البراغماتي والحصيف من الأزمة الروسية الأوكرانية، ووقوفها، حتى الآن على مسافة واحدة من طرفي الصراع، رغم كونها عضوا مؤثرا وقويا في حلف شمال الأطلسي «الناتو» الذي أعلن صراحة وقوفه ودعمه للجانب الأوكراني، فإنه يعاب على تركيا انزلاقها الخطير وموقفها الخاطئ غير المحسوب بدقة وبحسبة المصالح الوطنية، من الأوضاع الإقليمية التي شهدتها المنطقة خلال أحداث ما اصطلح على تسميتها بأحداث «الربيع العربي» التي تفجرت في أكثر من دولة عربية وأطاحت بأنظمة سياسية (تونس ومصر) وحولت دولا إلى ساحات حرب أهلية (سوريا وليبيا)، فكان لتركيا حضور سياسي ولوجستي في الكثير من هذه الأحداث، حيث اتخذت خلالها موقفا أثر على علاقاتها مع العديد من الدول، وتحديدا سوريا ومصر.
تركيا خلال السنوات الأولى التي أعقبت تسلم حزب العدالة والتنمية التركي زمام قيادة الدولة التركية، رفع الحزب هدف تصفير المشاكل مع الدول المجاورة وغيرها، وبالفعل شهدت العلاقات التركية العربية في فترة ما قبل اندلاع موجة «الربيع العربي»، تطورات متقدمة جدا ودخلت العلاقات التركية العربية مرحلة جديدة من التعاون والتفاهم والتناغم في العديد من القضايا الإقليمية والدولية أيضا، وهو تطور طبيعي لعلاقات بين أطراف إقليمية تجمعهم من الروابط التاريخية ما يكفي من أسس كفيلة بتمكنهم من إقامة نظام إقليمي متماسك فيما بينهم وليس العكس.
المواقف التركية التي خرجت عن أنقرة بعد أحداث «الربيع العربي» شطبت بشكل كبير جدا الشعار التركي الجميل، «تصفير المشاكل»، وخاصة بعد دخولها في خلاف عميق جدا مع دولتين عربيتين ذات وزن ثقيل في المنطقة وهما مصر وسوريا، وخاصة الأخيرة حيث لعبت تركيا دورا سلبيا وخطيرا فيما تعرضت له سوريا من هجمة شرسة ضلعت فيها العديد من الأطراف الإقليمية، وكانت تركيا بمثابة رأس الحربة في هذه الهجمة، بعد أن تحولت حدودها إلى شرايين مغذية ومزودة للجماعات المسلحة التي تدفقت على سوريا من مختلف دول العالم.
فتركيا التي وضعت مصالحها الوطنية في ميزان الربح والخسارة وهي تحدد مواقفها من الأزمة الروسية الأوكرانية، فاختارت الموقف الصحيح والذي يتماشى مع هذه المصالح، وخاصة أن تركيا ليست طرفا في هذه الأزمة، بل هي أحد الأطراف المتأثرة من تفجرها، نظرا إلى ما يربطها بموسكو وكييف من علاقات متنوعة، فإن أنقرة أغفلت مصالحها حين اتخذت مواقفها من تفجر الأحداث في سوريا ودخولها طرفا مباشرا في هذه الأحداث بهدف إسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، ثم كررت خطأها مع تفجر الأحداث في مصر والإطاحة بالرئيس الراحل محمد مرسي، فنصبت نفسها طرفا في هذا الصراع الداخلي، ما أثر على علاقاتها مع مصر، الأمر الذي جلب معه صدى سلبيا لعلاقات أنقرة مع بعض دول الخليج العربي.
سياسة «تصفير المشاكل»، هي الخيار الصحيح الذي كان يجب على أنقرة التمسك به وجعله مرشدا لعلاقاتها مع دول الجوار بالدرجة الأولى مثل سوريا والعراق، إلى جانب علاقاتها مع محيطها الإقليمي، وخاصة أن لتركيا ثقلا سياسيا واقتصاديا وعسكريا كبيرا، بإمكانها استخدامه لإنجاح تلك السياسة بدلا من استخدمه لإفشالها، عبر التدخلات غير المبررة في الشؤون الداخلية لدول الجوار وغيرها، بل والذهاب إلى أبعد من ذلك باحتلال أجزاء من أراضي هذه الدول، كما هو الحال مع الدولتين العربيتين الجارتين، بدلا من تعزيز ومساعدة هذه الدول على الدفاع عن سيادتها وتأمينها.
فتركيا تبقى بحاجة إلى جيرانها وإلى علاقاتها مع دول الإقليم، بقدر ما هذه الدول بحاجة إلى علاقات صداقة وطبيعية مع أنقرة، فالواقع الجغرافي يحكم علاقات الدول مع بعضها البعض، فهذا الواقع لا يمكن تغييره بتغير علاقاتها السياسية، فمهما دخلت العلاقات التركية العربية (السورية والعراقية مثالان)، في نفق من الخلافات، فإن الواقع الجغرافي يفرض تجاوز ذلك، فالمستقبل سيكون حتما لعلاقات صداقة وتعاون بين جميع هذه الدول، وليس العكس، وربما هذا ما يعكسه تصريح المرشح المحتمل لانتخابات الرئاسة التركية محرم أنجه بأنه إذا فاز بمنصب رئيس تركيا فسيقيم علاقات مع سوريا وبالتالي بالرئيس السوري بشار الأسد.
وبعيدا عما تعرضت له العلاقات التركية العربية من تصدعات وما مرت به من إخفاقات، وبعيدا عن الأسباب التي أدت إلى ذلك ومن الطرف الذي يتحمل مسؤولية ما حدث لهذه العلاقات، والتي شطبت، تقريبا، خيار تركيا السياسي السابق المتمثل في «تصفير المشاكل»، بعيدا عن ذلك كله، فإن هناك حقيقة يتوجب على أنقرة الالتفات إليها جيدا، وهي أن مستقبل تركيا في علاقات صافية وقوية وصحيحة مع محيطها الإقليمي، قبل غيرهم، وأعتقد أن المسؤولين الأتراك يدركون أكثر من غيرهم، كيف أن الأبواب الأوروبية أوصدت في وجه الأتراك للدخول في المنظومة الأوروبية، بعد سنوات طوال من الانتظار، والذي في اعتقادي لن ينتهي بتركيا في العضوية الأوروبية، لأن أنقرة باختصار ليست من أعضاء البيت المرغوبين.