ماذا يعني تخفيض الإدارة الأمريكية مساعداتها لتونس؟
قيس سعيّد يستقبل وفدًا رسميًا أمريكيًا ترأسّه السيّد جوناثان فاينر، مساعد مستشار الأمن القومي، الذي كان محمّلا برسالة خطية من الرئيس بايدن، في 13 أغسطس 2021.
يبدو أن تفسيرات الرئيس التونسي قيس سعيد وتبريراته لما يقوم به منذ أشهر من جمع للسلطات لم يقنع الأمريكيين بعد، لذلك قررت الإدارة الأمريكية مواصلة ضغوطاتها على سعيد حتى يعود للمسار الديمقراطي والدستوري في تونس.
خفض المساعدات
آخر الخطوات الأمريكية للضغط على سعيد تمثلت في اقتراح إدارة الرئيس جو بايدن تخفيض المساعدات العسكرية الأمريكية المقدمة لتونس بمقدار النصف تقريبًا، بحسب ما نشره موقع “المونيتور” الأمريكي، الجمعة.
ودعت الميزانية السنوية الأمريكية التي صدرت الأسبوع الماضي إلى تقديم 61 مليون دولار كمساعدات عسكرية وأمنية لتونس العام المقبل، عوضًا عن 112 مليون دولار المطلوبة لهذا العام، كما دعت الميزانية إلى خفض المساعدات الاقتصادية لوزارة الخارجية لتونس بمقدار 40 مليون دولار، أي ما يقارب 50% من طلب هذا العام.
ويأتي القرار الأمريكي في وقت تعاني فيه تونس أزمة اقتصادية هي الأسوأ منذ استقلال البلاد في خمسينيات القرن الماضي وعجز مالي كبير بلغ ما نسبته 8.3% من إجمالي الناتج المحلي نهاية سنة 2021، وتتوقع الحكومة حاليًّا عجزًا في الميزانية بقيمة 8.548 مليار دينار (3 مليارات دولار)، أي بنسبة 6.7% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2022.
تعي الإدارة الأمريكية جيدًا خطورة الوضع في تونس، لذلك يُنتظر أن تتخذ مواقف أقوى للضغط على قيس سعيد
تحتاج تونس لموارد بقيمة 19.9 مليار دينار (6.9 مليار دولار)، تتوزع بين 12.6 مليار دينار (4.39 مليار دولار) في شكل قروض خارجية، و7.3 مليار دينار (2.54 مليار دولار) اقتراض داخلي.
وتأمل الحكومة أن تحصل على قرض من صندوق النقد الدولي وبعض البنوك والدول الأخرى، رغم الشروط المجحفة، لكن مع وقف المساعدات المالية من واشنطن التي تعد من بين أهم المانحين الدوليين، ستتعقد المهمة أكثر.
وتعتبر الولايات المتحدة من بين أهم الدول المانحة التي دعمت التجربة التونسية في مراحلها الأولى بعد ثورة 2011، إذ خصصت واشنطن منذ سنة 2011 أكثر من 1.4 مليار دولار لدعم الانتقال الديمقراطي بتونس، وفق أرقام وإحصاءات رسمية نشرتها الإدارة الأمريكية في وقت سابق.
ويمثل الاقتراح الأمريكي إن تمت المصادقة عليه فعليًا وهو المتوقع، ضربة موجعة للاقتصاد التونسي ولنظام قيس سعيد، خاصة أن العديد من القوى الدولية والإقليمية ستحذو حذو الإدارة الأمريكية وتوقف مساعداتها الاقتصادية والعسكرية لتونس.
إذا تم سن هذه التخفيضات، فستعني أن حكومة سعيد ستخسر نحو 40 مليون دولار من المساعدات لشراء معدات عسكرية أمريكية بالإضافة إلى أكثر من 10 ملايين دولار من الأموال لدعم أعمال الشرطة ومكافحة المخدرات.
ويتطلب الاقتراح موافقة الكونغرس، رغم أن الإدارة تحتفظ ببعض السلطة لتجاوز القرار، ويسمح قانون الإنفاق العام لهذه السنة بمرونة الإدارة في صرف المساعدات المتبقية لهذا العام لتونس بناءً على تحسينات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ضغوطات أمريكية لعودة المسار الديمقراطي
يُفهم من اقتراح الإدارة الأمريكية خفض المساعدات لتونس وجود إرادة لدى واشنطن لتوسيع الضغوطات الممارسة على نظام قيس سعيد للعودة للمسار الديمقراطي في البلاد بعد استيلائه على كامل السلطات عقب انقلابه الدستوري ليلة 25 يوليو/تموز الماضي.
وقبل أيام قليلة أعربت الولايات المتحدة، عن قلقها بشأن “المسار الديمقراطي في تونس”، وأكدت على “أهمية إطلاق عملية إصلاح سياسي واقتصادي تشاركية يدلي فيها المجتمع المدني بصوته”، كما أكدت أن “القضاء المستقل أساسي لنظام ديمقراطي متماسك وسليم”.
وشددت وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للأمن المدني والديمقراطية وحقوق الإنسان، عُزرا زِيّا، في بيان على “ضرورة احترام حقوق الإنسان، بما في ذلك حرية التعبير وحرية النظم لجميع التونسيين، على النحو المنصوص عليه في الدستور والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”، داعية إلى “إجراء انتخابات حرة ونزيهة في تونس”.
ويعتبر هذا الأمر، تحولًا كبيرًا في الموقف الأمريكي من الأزمة التونسية، ففي البداية كان الموقف الرسمي أكثر حذرًا، فقد اكتفت الإدارة ببيانات دبلوماسية لا تعكس توجهًا محددًا، ممسكة العصا من المنتصف لا تميل إلى أي من أطراف الأزمة.
أثار هذا الموقف حينها الكثير من التساؤلات عن محددات إدارة بايدن في تعاطيها مع انقلاب قيس سعيد، لا سيما في ظل النفوذ الكبير الذي تتمتع به واشنطن في الداخل التونسي الذي يسمح لها باتخاذ موقف أكثر وضوحًا وصرامةً بعيدًا عن الدبلوماسية الباهتة.
وجاء تغير الموقف الأمريكي مما يحصل في تونس نتيجة خشية واشنطن من عودة تونس القهقرى في ظلّ إصرار سعيد على المضي قدمًا في تنزيل برنامجه الغامض على أرض الواقع، فقد حل البرلمان ويلاحق النواب الآن بتهم تتعلق بالتآمر على أمن الدولة وحل المجلس الأعلى للقضاء ووضع محله مجلس معيّن على المقاس وجمد أغلب المؤسسات الدستورية في البلاد وهاجم الصحفيين والنشطاء وكل من يعارضه حتى ممن كان يناصره من قبل.
كما رفض قيس سعيد الجمعة الماضية الدعوات لإجراء انتخابات برلمانية جديدة في غضون ثلاثة أشهر، على الرغم من أن دستور البلاد لعام 2014 ينص على إجراء انتخابات سابقة لأوانها بعد حل البرلمان.
إلى جانب ذلك، تخشى الإدارة الأمريكية أن يُلقي الوضع غير المستقر في تونس بظلاله على ليبيا ويؤدي إلى إطالة عدم استقرار الوضع السياسي بها، في وقت تسعى فيه العديد من القوى الداخلية والخارجية إلى وضع حد للأزمة الليبية المتفاقمة منذ سنوات.
من المستبعد جدًا أن يغير سعيد برنامجه أو أن يتوقف عن خطواته الرامية للاستحواذ على كل السلطات في تونس
كما يرجع التغيير أيضًا إلى الخطاب الإعلامي والبحثي الأمريكي الداعم للديمقراطية التونسية والمحذر من عودة عقارب الساعة التونسية لما قبل 2011، فضلًا عن الأصوات السياسية لا سيما البرلمانية المطالبة بضرورة اتخاذ موقف جاد تجاه التغول البين على المسار الديمقراطي في تونس التي تعتبر إلى وقت قريب الاستثناء الديمقراطي الوحيد في المنطقة العربية.
ويأمل نواب أمريكيون في أن تستخدم بلادهم العديد من الأوراق الإستراتيجية للضغط على سعيد حتى تعود تونس لمسارها الديمقراطي، ومن بين الأوراق التي يمكن الاعتماد عليها ورقة المساعدات وأيضًا التعاون السياسي الذي يشمل كل المجالات، فضلًا عن التعاون العسكري.
وتعي الإدارة الأمريكية جيدًا خطورة الوضع في تونس، لذلك يُنتظر أن تتخذ مواقف أقوى للضغط على قيس سعيد حتى يرجع عن قرارته ويعمل على تنظيم انتخابات حرة وديمقراطية ويُرجع المؤسسات الدستورية لسالف عهدها.
كيف سيتعامل سعيد مع الوضع؟
يعتبر الموقف الأمريكي الأخير مهمًا للضغط على الرئيس التونسي، لكن بالنظر إلى سلوك قيس سعيد منذ توليه رئاسة البلاد في أكتوبر/تشرين الأول 2019 وانقلابه على الدستور ومؤسسات الدولة في يوليو/تموز الماضي، نرى أنه بالكاد سينظر لهذا الأمر.
من المستبعد جدًا أن يغير سعيد برنامجه أو أن يتوقف عن خطواته الرامية للاستحواذ على كل السلطات في تونس والتمهيد لنظام حكم يُفصّل كل تفاصيله بنفسه دون الرجوع إلى الشعب وإن كان يدعي استشارة التونسيين من خلال الاستشارة الإلكترونية التي طرحها في منتصف يناير/كانون الثاني الماضي وامتدت حتى منتصف مارس/آذار وأثبتت فشلها.
يعني هذا أن المتضرر الأبرز من كل العقوبات على سعيد هو الشعب التونسي، ذلك أن سعيد أثبت أنه لا يبالي بالأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للتونسيين وإنما همه الوحيد الآن، تكييف نظام الحكم على مقاسه وبما يلبي طموحاته.
في ظل إصرار سعيد على المضي قدمًا في برنامجه الغامض دون أن يلتفت قيد أنملة للضغوطات الخارجية والداخلية الممارسة عليه ودون النظر للمتاعب التي تسبب فيها للتونسيين نتيجة انقلابه الدستوري، من المنتظر أن تشهد تونس أزمات اقتصادية واجتماعية أكبر لها أن تجر البلاد نحو الإفلاس كحال لبنان.