التّاسع من نيسان 2003: بدء تأريخ ينتظر الخاتمة
12-04-2022 | 04:00 المصدر: النهار العربي
إسقاط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس في بغداد، 9 نيسان (أبريل) 2003.
A+A-صار الجدل بشأن معنى التاسع من نيسان 2003، يوم إطاحة أميركا نظام صدام حسين، خلافاً عراقياً مألوفاً، يتكرر في حدّته السنوية عند المرور بالمناسبة لتحديد الهوية السياسية والتاريخية لذلك اليوم. هل كان احتلالاً أجنبياً بغيضاً أم تخلصاً مُفرحاً من نظام قمعي؟ غالباً ما تكون إثارة الأسئلة الثنائية الطابع مضللة، لأنها تريد أن تفرض على الأشياء حسماً واضحاً ونهائياً وجاهزاً، عندما تكون هذه الأشياء نفسها، بتفاعلاتها الكثيرة، غير مستعدة لهذا الحسم لأنها لم تكتمل بعد.
ليس صعباً فهم إحساس الفرح الذي أحسته الأغلبية الساحقة من العراقيين بحدود ظهيرة يوم الأربعاء في التاسع من نيسان (أبريل) عام 2003، عندما وصلت الدبابات الأميركية الأولى إلى وسط بغداد واختفت القوات العراقية المدافعة عن العاصمة، وصولاً إلى اللحظة الرمزية التي أعلنت نهاية نظام صدام في عصر ذلك اليوم، بإسقاط دبابة أميركية تمثال صدام حسين الضخم في ساحة الفردوس، وسط حضور عراقي محدود لكنه متحمس فرحاً. كان فرح العراقيين المحتفين بسقوط النظام الشمولي في ذلك اليوم طبيعياً ومتوقعاً، وإن كان بعضه حَذِراً أو غير معلن، خوفاً من عودة النظام مرة أخرى.
كان الرئيس الأميركي جورج بوش، الفاعل الأساسي الذي صنع تلك اللحظة، جالساً مع بعض مساعديه في البيت الأبيض، يراقب عبر شاشة التلفزيون اقتلاع التمثال بواسطة دبابة أميركية اعتلاها عراقيون فرحون، كما كان يفعل ربما مئات الملايين من البشر في تلك اللحظة، إذ نقلت الحدث حياً كل القنوات الإخبارية تقريباً في العالم، بلغاتها المختلفة. لم يكن الحدث بحاجة إلى ترجمات لغوية، فالصور كانت تتحدث وحدها من دون حاجة لوسيط لغوي يشرحها. بحسب مطلعين، علق بوش لمساعديه بأن عدد العراقيين في الساحة كان قليلاً نسبياً. وأضاف، معللاً هذه القلة، أن العراقيين لا يزالون خائفين من نظام البعث، وغير مصدقين لحد الآن أنه انتهى. قد تكون هذه الإشارة صحيحة، فعلى الأكثر، لم تقتنع أغلبية العراقيين يومها بأن نظاماً حكمهم 35 عاماً انتهى تماماً من دون عودة.
في المقابل، كانت هناك أطروحة أخرى تبنتها أقلية صغيرة جداً من العراقيين حينها، تقول بأن ذلك اليوم “أسود” لا يستحق أن يُفرح به، لأنه يوم احتلال العراق وفقدانه سيادته. يحاجج دعاة هذه الأطروحة بأنه بغضّ النظر عن الظلم والحرمان والخوف الذي عاشه العراقيون في ظل نظام صدام، فإن هذا لا يعطيهم الحق بالفرح بسقوطه على يد محتل، وبالتالي فإن الفرح بقدوم الأجنبي هو فعل مناقض للوطنية. تقوم هذه الأطروحة على مغالطة كبرى عبر فصل الأسباب عن النتائج، وتخيل أن الوطنية جوهر ثابت ومستقل في الزمان والمكان وليس نتاج الحوادث والوقائع والمشاعر.
في الحقيقة، لا وطنية من دون حرية، والاثنتان كانتا غائبتين في عراق صدام. الوطنية تمسك عاطفي وواع بالبلد كوطن ينتج من تفاعل حر بين مواطنيه، ويقود إلى تشكيل شبكة معان ومصالح وقيم مشتركة، يمنح عيشها للأفراد المتفاعلين إحساساً بهوية عامة يتشاركون فيها كمواطنين. هل كان يمكن الحديث فعلاً عن وطنية عراقية في ظل نظام قمعي شمولي كالذي قاده صدام حسين نحو 24 عاماً بين 1979 و2003؟ في ظل شمولية هذا النظام، كان يصعب على المرء أن يفكر، مستقلاً، بنفسه ولنفسه، في قضايا الشأن العام، مثل ما كان يستحيل عليه أن يختار وأن يعيش خياراته في الحيّز العام، عندما لا تتّسق هذه الخيارات مع خيارات الدولة التي تقرر وتختار كل شيء ذي معنى سياسي أو شبه سياسي لـ”المواطن”. دولة البعث الشمولية، في عهدها الصدامي، كانت تختار أصدقاء البلد وخصومه، كما تختار قضاياه وأولوياته، حروبه وسلامه، قوانينه وسياساته في كل مجالات الحياة، من التعليم إلى الصحة إلى الثقافة إلى الاقتصاد إلى السفر، بل حتى نوع الناس الذين يحق لـ”المواطن الصالح” التواصل معهم. تُتخذ كل هذه القرارات، وغيرها كثير، بمعزل عن المجتمع، من دون مشاورته أو التفاوض معه، وعلى المجتمع التنفيذ تحت طائلة الخوف والعقوبة وتهم الخيانة وضعف الوازع الوطني!!
كانت الوطنية العراقية معطلة ومؤجلة في ظل النظام البعثي، لأنه باختصار لم يكن هناك حيّز لمساهمة الناس في مواصلة تشكيلها وفي عيشهم لها، تلك الوطنية التي بدأ تشكلها البطيء والتدريجي والتراكمي مع تشكل الدولة العراقية الحديثة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. بعد نحو نصف قرن من بدء تشكلها الأول، اختطفت الوطنيةَ العراقية شموليةُ الدولة البعثية التي احتكرت القرارات والقيم والأفكار لتعيد تشكيل هذه الوطنية من الأعلى، قسراً بقوة الخوف الأمني الممنهج، وبالترويج الدعائي الداعم لهذا الخوف. كيف يمكن للوطنية، أن توجد وتكبر وتنضج وتتحول إلى حزمة أفعال محسوسة في مجتمع مقموع وخائف ومسلوب الإرادة والخيار، مجتمع مهمته أن يطيع وينفذ ولا يناقش حتى عندما تكون القرارات التي ينفذها خاطئة تماماً ونتائجها الواضحة كارثية على الجميع؟
لعل المفارقة المهمة التي يقفز عليها دعاة هذه الأطروحة الجوهرانية، التي لا ترى في التاسع من نيسان إلا مجيء المحتلين لا نهاية صدام، هي أن “الاحتلال” الذي يدينونه، عبر إطاحته نظام صدام، هو من رفع عن المجتمع الرعب الشمولي الذي كان يمسك بخناقه ويمنعه من تطوير حسه بالوطنية العراقية. بغضّ النظر عن أخطاء أميركا الكثيرة في العراق بعد التاسع من نيسان، فإن ما قامت به دشّن صيرورة عراقية جديدة، وإن تكن صعبة، تقوم على الاختلاف والاختيار وارتكاب الأخطاء والتعلم البطيء. هذا هو فحوى العملية السياسية التي دشنتها أميركا في العراق بقرار من الأمم المتحدة. العملية السياسية هي مرحلة انتقالية بين الظلم الشمولي الذي يمثله نظام صدام، والاستقرار الديموقراطي الذي يصنعه نظام سياسي جديد شفاف ومسؤول أمام شعبه. فشلت هذه العملية السياسية بسبب تغوّل الطبقة السياسية العراقية بأحزابها الإقطاعية، التي قادت هذه العملية وأرادت تحويلها إلى مرحلة دائمة تهيمن هي عليها وتستفيد منها، أي تطبيع المجتمع على نوع جديد من الهيمنة الناعمة الطوعية، باسم تمثيل المكوّنات وضمان حقوقها المفترضة.
لكن في النظام الديموقراطي ليس للمكوّنات حقوق، بل الحقوق للأفراد فقط. عندما أدرك المجتمع أن حقوق أفراده تصادرها هذه الطبقة السياسية الإقطاعية، كراعية مزيّفة لمكوّنات غير موجودة إلا في المخيلة الأيديولوجية، ثار عليها وعلى فكرة المكوّنات، ومن هنا كانت احتجاجات تشرين 2019 إعلاناً واسعاً وواضحاً عن غضب المجتمع على الأحزاب. عبر تجربة العملية السياسية هذه والإدارة الكارثية للأحزاب لها، تشكل لدى المجتمع حس جديد بالوطنية العراقية، طابعه حقوقي ليبرالي، يستهدف أساساً البنى والسلوكيات الاستغلالية التي رسختها أحزاب الطبقة السياسية الحاكمة.
ما كان للمجتمع أن يطوّر حس الوطنية هذا، وأن يحتج ويضع الطبقة السياسية وأحزابها الاستغلالية في امتحان عسير تعيشه حالياً لولا تحرير أميركا لهذا المجتمع من الخوف والقمع الشموليين، بعد إطاحتها نظام صدام.
لا يزال الصراع بين المجتمع والأحزاب قائماً، من دون حسم نسبي أو واضح. لكن أياً تكن نتيجة هذا الصراع، فإنه دليل مهم على أن مجتمع ما بعد التاسع من نيسان أو ما يُعرف عراقياً بـ”يوم السقوط”، في جوانب كثيرة منه، ليس امتداداً لمجتمع ما قبل ذلك اليوم. لم يعد المجتمع الآن خائفاً وطائعاً ومنقاداً كما كان في ظل نظام صدام، إذ صارت له إرادة وحسّ بالذات، وقدرة على التنظيم، ورغبة قوية في صناعة وقائع السياسة والدولة والمؤسسات على أساس مصالحه المشروعة لا مصالح الطبقة السياسية التي اختطفت التمثيل والموارد، لكنها عجزت عن اختطاف إرادة المجتمع أو إسكاته.
التاسع من نيسان 2003 فتح الباب واسعاً على كل هذا، على صيرورة فاعلة وصعبة ومعقدة، بكل إيجابياتها وسلبياتها. من المبكر إصدار “حكم وطني” نهائي على معنى ذلك اليوم، إلى أن تصل هذه الصيرورة إلى مآلاتها الأخيرة. قصة التاسع من نيسان لم تنته بعد.