مقالات

رمضان بعيون الرحالة الأوروبيين

محمد عبدالصادق:
حظي شهر رمضان بمكانة كبيرة لدى المستشرقين والرحالة الأوروبيين الذين تواجدوا في بلاد المسلمين أثناء الشهر الفضيل، وكانت الرحلات الاستكشافية للدول العربية تلقى رواجا كبيرا في أوروبا بداية من منتصف القرن الثامن عشر مع ظهور الصحافة والتصوير الفوتوغرافي، وكان الرعاة وأغنياء أوروبا يتسابقون على تمويل مثل هذه الرحلات التي تنقل تفاصيل الحياة في بلاد الشرق بما تحمله من أسرار وغموض واختلاف العادات والتقاليد عما هو سائد في أوروبا، وصدرت مئات الكتب والمخطوطات وقصاصات الصحف التي ما زالت محفوظة في المكتبات والمتاحف العالمية.
ومن أشهر الرحالة الذين وصفوا طقوس الشهر المبارك الرحالة البريطاني إدوارد وليام لين الذي زار مصر أكثر من مرة كان أطولها عام 1833م والتي تزامنت مع احتفال المصريين بقدوم الشهر الفضيل، وأبرزها لين في كتابه الشهير “عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم”، وتوقف الكاتب كثيرا عند ليلة رؤية الهلال التي قال عنها: “ينطلق المحتسب وشيوخ الحرف؛ والخبازون والطحانون والجزارون والزياتون والخضرجيون وشهبندر التجار، وفرق من المزيكاتية وعموم الناس، يتقدمهم الجنود في هذه الليلة في موكب يبدأ من القلعة وينتهي عند محكمة القاضي، وهناك ينتظرون عودة أحد الذين ذهبوا لتحري الرؤية، أو شهادة مسلم آخر رأى القمر هلالا، ويحتشد الناس في الشوارع وهم يهتفون عند مرور الموكب: بركة، بركة.. بارك الله عليك يا رسول الله”، بعدها يحين وقت الحسم كما يقول لين: “بعد أن يصل الخبر اليقين لرؤية الهلال إلى محكمة القاضي، ينقسم الجنود والمحتشدون فرقا عديدة، ويعود فريق منهم إلى القلعة، بينما تطوف الفرق الأخرى بمختلف أحياء القاهرة وهم يهتفون: يا أتباع أفضل خلق الله صوموا.. صوموا”، وتابع لين “إذا لم يروا الهلال في تلك الليلة، يصيح المنادي (غدا شعبان، لا صيام، لا صيام)، ويمضي المصريون وقتا كبيرا في تلك الليلة يأكلون ويشربون، وترتسم البهجة على وجوههم، وتتلألأ الجوامع بالأنوار، وتعلق المصابيح عند مدخل المآذن وأعلاها”
ومع حلول ساعات النهار، يلاحظ لين إخلاص المصريين في تأدية فريضة الصوم، ويرصد مواظبة الكثيرين على الصلاة، خصوصا في جامع الحسين، ورؤية التجار في حوانيتهم يتلون آيات القرآن، ويوزعون الخبز على الفقراء.
وينتقل إلى وصف موائد الإفطار، فيقول: “يضع أبناء الطبقتين المتوسطة والغنية طوال شهر رمضان كراسي الإفطار والمائدة في الحجرة التي يستقبل فيها صاحب المنزل زواره، قبيل مغيب الشمس بدقائق معدودات”. وأضاف: “تثبت صينية فوق المائدة تزينها أطباق الزبيب، والتمر والتين المجفف، والكعك، والبندق والجوز المحمص، وبعض قلل الشربات من السكر والماء، ويزيدون عدد الفناجين، إضافة إلى عدد الأشخاص في المنزل تحسبا للزوار الذين يحضرون بغتة فيشاركون الشراب”.
وأضاف لين: “يتناول رب المنزل بعد أذان المغرب الذي يرفع بعد مغيب الشمس بأربع دقائق، مع لفيف من أفراد عائلته أو أصدقائه كأسا من الشربات، ويجلسون بعد تناول هذا الشراب المنعش لتناول الفطور الدسم المؤلف من اللحم وغيره من أطايب الطعام، ويتطرق الكاتب للحديث عن صلاة التراويح، والسحور فيقول: “ويدور المسحرون كل ليلة في شهر رمضان، فيطلقون المدائح أمام كل بيت مسلم قادر على مجازاتهم، ويعلنون في ساعة متأخرة فترة السحور”.. ويضيف: لكل منطقة في القاهرة مسحرها الخاص الذي يبدأ جولته بعد ساعتين تقريبا من المغيب، فيحمل في يده اليسرى (بازا) صغيرا أو ما يعرف بطبلة المسحراتي، وفي يده اليمنى عصا صغيرة، ويرافقه في جولته صبي يحمل قنديلين في إطار من أعواد النخيل يتوقفان أمام منزل كل مسلم، ويضرب المسحراتي بازه عند كل وقفة ثلاث مرات، ثم يطلق المدائح النبوية مناديا بالصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وبتوحيد الله فيقول: اصح يا غفلان.. وحد الرحمن”.
ولم يفت لين التحدث عن مزاج المصريين خلال أيام الصيام، مشيرا إلى اضطراب الحالة المزاجية بحسب توقيت اليوم يكون المصريون طوال صومهم في النهار نكدي المزاج، ويتحولون في المساء بعد الإفطار إلى ودودين محبين، ويتناول معظم المصريين فطورهم في منازلهم ويمضون بعده بساعة أو ساعتين إلى منزل صديق، ويرتاد البعض المقاهي، يستمعون إلى رواة القصص الشعبية، ويقيم بعض علماء الدين في القاهرة حلقات ذكر في منازلهم كل ليلة طوال الشهر.
وعن ليلة القدر يقول لين: “يحيي الأتقياء المتدينون آخر عشر ليالٍ من رمضان في نهاره وليله معتكفين في المساجد، وتعرف إحدى هذه الليالي وهي ليلة السابع والعشرين بليلة القدر.. ويقضي المصريون هذه الليلة بخشوع كبير، ويجعلون أمامهم وعاء فيه ماء مالح يذوقون طعمه ليروا إن بات حلو المذاق فيتأكدون أن تلك الليلة هي ليلة القدر.