الاجتماع الأخير لـ “مكتب الإرشاد”
عمرو فاروق- النهار العربي
عقب وصول الرئيس محمد مرسي إلى قصر الاتحادية الرئاسي المصري في حزيران (يونيو) 2012، أدركت القوى الشعبية والسياسية أن “مكتب الإرشاد” هو الحاكم الفعلي والمسيطر على شؤون الرئاسة، والمحرك الأساسي للكثير من الأحداث التي شهدتها القاهرة، في ظل تعامل جماعة الإخوان مع الدولة المصرية على أنها ملكية خاصة، وأنها الوريث الشرعي لنظام الرئيس حسني مبارك.
ثمة شواهد متعددة وثّقت فشل جماعة الإخوان في الانتقال من “فقه التنظيم” إلى “فقه الدولة”، منذ وصولهم للحكم وسقوطهم المدوي في تموز (يوليو) 2013، إذ اعتبروا أن الدولة المصرية مجرد شُعبة من شُعب الجماعة، وأن مقدراتها وخيراتها خاضعة لتوجهات التنظيم الدولي.
كانت الشهور الأولى من عام 2013، مملوءة بالتفاصيل والأحداث الشاهدة على تصلب مواقف “الإخوان” تجاه القوى الشعبية المنتفضة ضد الطريقة التي تدار بها شؤون الدولة المصرية، من خلال التعديلات والتشريعات القانونية، التي تمكن القواعد التنظيمية من التغلغل في مفاصل مؤسسات الدولة وعمقها، في إطار عمليات الإحلال والاستبدال.
يوم 30 حزيران (يونيو) 2013 خرجت تظاهرات مليونية في مخلتف أنحاء الدولة المصرية، منددة بحكم المرشد، ومطالبة باستقالة محمد مرسي من الحكم بعد مرور عام على توليه السلطة، وبعدما تمكنت حركة “تمرد” الشعبية من جمع توقيعات لـ 22 مليون مصري مؤيدين لسحب الثقة من الرئيس “الإخواني”.
لم يكن أمام القوات المسلحة المصرية، في 1 تموز (يوليو) 2013، سوى إصدار بيان تمهل فيه القوى السياسية 48 ساعة لتحمل أعباء الظرف التاريخي، مبينة أنه في حال عدم تحقق مطالب الشعب، فإن القوات المسلحة ستعلن عن خريطة مستقبل وإجراءات تشرف على تنفيذها.
كانت قيادات “مكتب الإرشاد” مع موعد لآخر اجتماع لها داخل المقر الرسمي للجماعة في المقطم، مساء يوم 1 تموز (يوليو) 2013، لتقييم المشهد وتحديد بوصلة التنظيم وقياداته وقرارته حول تطورات الأوضاع السياسية، مبدية اعتراضها الشديد على بيان القوات المسلحة، الداعم والمؤيد للمطالب الشعبية.
على مائدة الحوار، خلال الاجتماع المسجل بالصوت والصورة، وفقاً لمصادر أمنية، طرحت قيادات “مكتب الإرشاد” عدداً من المسارات، كمحاولة للخروج من المشهد من دون أن تفقد الجماعة أياً من مكاسبها السياسية والاقتصادية التي حققتها منذ سقوط نظام الرئيس مبارك، إذ إنها شعرت بأن القوات المسلحة المصرية جادة في تنفيذ نداء الشعب المصري وحماية مطالبه، ولا يمكن التعامل معها بنوع من المراوغة السياسية أو الخديعة.
لم يكن أمام قيادات جماعة الإخوان سوى أمرين: إما الاستجابة لضغوط الشارع والانسحاب من المشهد السياسي والدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة، وإما الدخول في مواجهة مباشرة مع الشارع المصري، مهما تكن نتائجها مع اتباع سياسة فرض الأمر الواقع، وعدم التراجع عّن أي من مواقفها السياسية التي حققتها واعتبرتها جزءاً أصيلاً من مكاسبها، وتجييش عناصرها وحلفائها ومريديها حول مسارات التمسك برأس السلطة وتحويل الخلاف من “أزمة سياسية” إلى “معركة دينية” بين الإسلام والكفر.
كان الرأي الغالب والمهيمن على قيادات “مكتب الإرشاد” الاتجاه إلى التطبيق العملي للقوة، التي طرحها سيد قطب في كتابه “معالم في الطريق” من أجل بناء الدولة، أو “القوة المؤجلة”، التي صاغها حسن البنا في رسالة المؤتمر الخامس.
اختارت جماعة “الإخوان” الطريق الذي يتناسب مع توجهاتها وتشدّدها وتطرفها، ولم تنزل وقياداتها إلى مسارات التفاوض والحوار مع القوى السياسية، ولم تُعمل عقلها في الاستجابة لمطالب القوى الشعبية الثائرة ضد فشلها وسطوتها على مقاليد الدولة، مشرعنة للعنف والعمل المسلح تحت غطاء حماية الشرعية والشريعة، ومعتبرة مخالفيها وخصومها كفاراً يجب القصاص منهم واستحلال دمائهم.
كان من فضل الله وكرمه على الدولة المصرية، أن انحرفت جماعة “الإخوان” وقيادتها في طريق المواجهة المباشرة، التي أسقطت عنها النقاب، وعن مزاعمها باتباع الوسطية والاعتدال والعمل الدعوي والخدمي، وأغلقت أمامها أبواب المراوغة السياسية التي تملقت بها القوى الشعبية والدوائر الاجتماعية على مدار سنوات طويلة.
كانت تداعيات الاجتماع الأخير لـ”مكتب الإرشاد” في توظيف القوة والعنف، ظاهرة في آخر حوار دار بين الرئيس المعزول محمد مرسي، والفريق عبد الفتاح السيسي (حينها)، مساء يوم 2 تموز (يوليو) 2013، داخل إحدى المؤسسات السيادية في القاهرة، والذي انفردت به صحيفة “الوطن” المصرية، في 5 تموز (يوليو) 2013.
وجاء نصه كالتالي:
“مرسي: الجيش موقفه إيه من اللي بيحصل، هيفضل كدا يتفرج، مش المفروض يحمي الشرعية؟
السيسي: شرعية إيه؟ الجيش كله مع إرادة الشعب، وأغلبية الشعب حسب تقارير موثقة مش عايزينك.
مرسي: أنا أنصاري كتير ومش هيسكتوا.
السيسي: الجيش مش هيسمح لأي حد يخرّب البلد مهما حدث.
مرسي: طيب لو أنا مش عايز أمشي.
السيسي: الموضوع منتهي ومعدش بمزاجك، وبعدين حاول تمشي بكرامتك، وتطلب من أنصارك الرجوع لمنازلهم، حقناً للدماء بدلاً من أن تهدد الشعب بهم.
مرسي: بس كدا يبقى انقلاب عسكري وأمريكا مش هتسيبكم.
السيسي: إحنا يهمنا الشعب مش أمريكا، وطالما أنت بتتكلم كدا أنا هكلمك على المكشوف… إحنا معانا أدلة تدينك وتدين العديد من قيادات الحكومة بالعمل على الإضرار بالأمن القومي المصري والقضاء هيقول كلمته فيها، وهتتحاكموا قدام الشعب كله.
مرسي: طيب ممكن تسمحولي أعمل شوية اتصالات وبعد كدا أقرر هعمل إيه.
السيسي: مش مسموح لك، بس ممكن نخليك تطمئن على أهلك فقط.
مرسي: هو أنا محبوس ولا إيه؟
السيسي: أنت تحت الإقامة الجبرية من دلوقتي.
مرسي: متفتكرش إن “الإخوان” هيسكتوا لو أنا سِبت الحكم.. هيولّعوا الدنيا.
السيسي: خليهم بس يعملوا حاجة وهتشوف رد فعل الجيش.. اللي عايز يعيش فيهم باحترام أهلاً وسهلاً.. غير كدا مش هنسيبهم.. وإحنا مش هنُقصي حد، و”الإخوان” من الشعب المصري ومتحاولش تخليهم وقود في حربكم القذرة.. لو بتحبهم بجد تنحى عن الحكم وخليهم يروّحوا بيوتهم.
مرسي: عموماً أنا مش همشي والناس برة مصر كلها معايا وأنصاري مش هيمشوا.
السيسي: عموماً أنا نصحتك.
مرسي: طيب خد بالك أنا اللي عينتك وزيراً وممكن أشيلك.
السيسي: أنا مسكت وزير دفاع برغبة الجيش كله ومش بمزاجك وأنت عارف كدا كويس.. وبعدين أنت متقدرش تشيلني أنت خلاص لم يعد لك أي شرعية.
مرسي: طيب لو وافقت أن أتنحى.. ممكن تسيبوني أسافر برة وتوعدني أنكم مش هتسجنوني.
السيسي: مقدرش أوعدك بأي حاجة، العدالة هي اللي هتقول كلمتها.
مرسي: طيب طالما كدا بقى أنا هعملها حرب ونشوف مين اللي هينتصر في الآخر”.
مفردات هذا الحوار تمثل دليلاً كافياً على النية المبيتة والتعليمات المسبقة من قبل قيادات “الإخوان” إلى قواعدهم التنظيمية باللجوء إلى العنف المسلح، وإحراق القاهرة، ما لم تظل سلطة الدولة المصرية في أيديهم، في تحد واضح لإرادة الشعب المصري ورغباته.
كان الاجتماع الأخير لقيادات “مكتب الإرشاد” هو البداية لمسلسل الدماء التي سالت في الشارع المصري، والتخطيط لبناء تمركز جغرافي في الميادين المصرية، بكثافات وتجمعات بشرية من القواعد التنظيمية والدوائر التعاطفية المنخدعة بخطاب حركات الإسلام السياسي، وبلورة حالة من الانقسام السياسي والديني تمكنهم من تحويل القاهرة إلى سوريا أو ليبيا جديدة.