العراق.. من هو العدو، ومن هو الصديق؟
إياد العنبر01 مايو 2022
اختصر المفكّر الألماني كارل شميث (ت 1985) الخاصية الجوهرية التي تُميّز العمل السياسيَ بأنّها تقوم على أساس “التمييز بين الصديق والعدو”، وهو تمييز يحدد شكلَ السياسة ومضمونها.
والتمييز الذي يحدده كارل شميث يختلف تماماً عن المقولة التي يتحجج بها الكثير مِن السياسيين: «لا عداوات ولا صداقات دائمة، وإنما مصالح دائمة». فالاختلاف في المعايير التي تحدد الصديقَ أو العدو، ومِن ثمَّ الأثر الذي يترتب على الاعتبارات السياسية التي تحدد مَن هو «العدو» ومَن هو «الصديق»، لأنَّ نتيجة التمييز تكون إعلان الحرب أو استخدام كلّ مقدرات الدولة لمواجهة العدو.
قد تكون قاعدة تحديد العدو والصديق من بديهيات العمل السياسي، ولا يمكن الوقف في تحليلها طويلاً.
بيد أن التعمّد في تغيبها من قبل الطبقة السياسية التي تحكم العراق، تجعل موضوع التمييز خاضع لمزاجات الزعامات السياسية، أكثر مِن اعتماده على قواعد تعتمد في الخطاب والمواقف السياسية، لذلك تجد مَن يُتهم بـ(الإرهابي) و(العميل لِلأجنبي)، أو مَن هو مشمول بإجراءات المسألة والعدالة، شريكاً أو حَليفاً بعد فترة وجيزة وتسقط عنه جميع التهم بالعمالة والتخوين، حتّى وإن كانت مواقع الإنترنت تحتفظ بتصريحاته وبمواقفه التي يعلن فيها العداء لِلدولة وليس لِلطبقة السياسية الحاكمة فقط!
يختلف السياسيون كثيراً في العراق، وينشغل الرأي العام وتضج وسائل التواصل الاجتماعي بسجالات بشأن خلافاتهم، ويبقى الرأي العام منقسماً بشأن خلافاتهم التي ترسخ التصدع الاجتماعي.
ولكنَّهم يعودون ويجلسون إلى طاولة واحدة، وبالتأكيد لا يجمعهم حُبّ الوطن ولا البحث عن خلاص لمأزق سياسي، وإنّما يجلسون ليتقاسموا مغانمَ السلطة وحصصهم مِن الوزارات. ويبقى المواطن حائراً على ماذا اختلفوا منذ البداية، وكيف صدقنا أنّهم ممكن أن يختلفوا؟
والخلافات السياسية في العراق هي فرصة لِلتسقيط السياسي، وتبدأ بإحالة الملفات إلى القضاء، التي ربما تكون التورّط بملفات الفساد أو هدر المال العام، أو حتى اتهامات بقضايا تتعلّق بالإرهاب.
ولكنّها تنتهي بوساطات سياسية ويتم حسم الموضوع بالتراضي، وبين ليلةٍ وضحاها تسقط جميع التهم وتغلق جميع الملفات! ويعود مَن كان متهماً بقضايا فساد أو إرهاب بمشهد احتفالي محمولاً على الأكتاف وتهتف له الجماهير (هلا بيك هلا.. وبجيتك هلا).
كلّ هذا يحدث، لأنَّ الطبقةَ السياسية وزعامتها لا تميّز بين مَن يعلن العداءَ لِلدولة، وبين من يعارض العملية السياسية. ولذلك يبقى الموضوع مرتهناً بمزاجيتها ومصالحها في المسامحة والعفو عن مَن يسيء إلى الدولة والمجتمع! فالدولة تم إلغاؤها تماماً وبات العفو والصفح مرتهناً بحسابات سياسية لا تتعلق بتحقيق المصالحة السياسية والمجتمعية، وإنما بمزاج زعيم سياسي أو رئيس الحكومة الذي يريد استخدام ملفات الاتهام أو إسقطاها حسب مصالحه أو تحت دافع إحراج الخصوم السياسيين أو التأثير عليهم.
عندما تعمل الطبقةُ السياسية على إلغاء أو تقزيم الدولة وقانونها ومؤسساتها، وتكون الإرادات السياسية لِلزعامات هي الحاكمة، تكون النتيجة طبيعية بأن مَن يتوافق ويتصالح مع هذا الزعيم السياسي أو ذاك ويكون تحت رعايته، ممكن أن تسقط عنه جميع التهم، حتّى لو كان يتغنى ويمجّد بدكتاتورية النظام السابق، أو يهتف ويدعو بالنصرِ لِلجماعات الإرهابية على القوات المسلّحة العراقية!
حتّى على مستوى العلاقات الخارجية، يمكن القول أن العراق هو الدولة الوحيدة في العالَم التي لا تضع معايير واضحة ومحددة لمن هي الدولة الصديقة، ومَن الدولة العدو! فالموضوع خاضع لمزاج الحكومات أكثر مِن مبادئ واضحة تقوم على أساس تحديد مصلحة وسيادة الدولة العراقية. إذ في 2009 وبعد تفجيرات إرهابية استهدفت بغداد، اتهم نوري المالكي -رئيس الوزراء آنذاك- سوريا بدعم وإيواء الجماعات التي نفذت تلك العملية، وطالب مجلس الأمن الدولي بالتحقيق بالتفجيرات. لكنّه في 2010 أرسل وفداً رسمياً إلى سوريا ليؤكد على عمق العلاقة الاستراتيجية بين دمشق وبغداد التي (لا تؤثّر عليها التصريحات المتبادلة بين البلدين في مرحلة التوتر السابقة). وقد وجدنا العراق فيما بعد البلد الداعم لِلنظام السوريّ بعد أحداث 2011 في سوريا!
وكذلك علاقتنا مع تركيا، إذ رغم تفاقم المشاكل والانتهاكات التركية لِسيادة العراق وأمنه في مناطق شمال العراق، والاستمرار بتهديد العراق بالجفاف والتصحّر بسبب التجاوز على حصّة العراق من المياه، إلا أن كل تلك الأعمال لم تتعاطَ معها الحكومة العراقية بأنها أعمال تصدر مِن دولة عدوّة ولا يمكن عدّها دولةً صديقة! كونها تستهدف سيادة الدولة وأمنها الاقتصادي. إذ يبدو أن الموضوع خاضع لاعتبارات ومصالح تعلو على اعتبار مصلحة الدولة.
وعدم التمييز بين مَن هو العدو ومَن هو الصديق على أساس معايير الولاء والبراء لِلدولة وليس لِزعيم سياسي أو حكومة معينة، فهو يعني دقّ مسمار آخر في نعش الدولة. الدولة التي ضيّعت جميعَ ملامحها طبقةٌ سياسيةٌ رسّخت الفوضى والفساد وألغت تماماً كلَّ مقومات سيادة القانون وحكم المؤسسات. إذ لم تبدع هذه النخب الحاكمة في شيء إلّا ضياع كلّ الفرص التي يمكن لها أن تتجاوز أمراض المرحلة الانتقالية والتوجّه نحو بناء النظام السياسي الديمقراطي.
لذلك لم يعد مستغرباً بأنَّ مَن لا يعرف أن السياسية تقوم على مبدأ التمييز بين العدو والصديق، لا يمكن له أن يعرف معنى الدولة وكيفية إدارتها وفق مبدأ المصلحة العليا وليس مصالح الزعماء السياسيين أو مزاج الحكومات.
إياد العنبرTwitterالآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).