عن ليل العراقيين الطويل
آراءعبد اللطيف السعدون18 مايو 2022
لا يزال ليل العراق طويلا كما رآه المتنبي، وفيه “تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم”، لكأنما كتب على العراقيين أن تفرّقهم أسئلة السياسة كما فرّقتهم في أكثر من زمان. وإذا كانت في زمان المتنبي دولة ورجال، ففي زماننا لم تعد في العراق ثمّة دولة واقفة على رجليها، ولم يعد عندنا أحد من صنف “الرجال القمم” الذين تحتفي بهم الدول، والذين وصفهم المفكر الفرنسي، أندريه مالرو، بأنهم من تشرئبّ إليهم الأعناق إذا ما أحدقت المحن بالناس، واستعصت عليهم الحلول، ولم يبق أمام العراقيين اليوم سوى ممارسة الحلم، والهروب من الحاضر إلى “نوستالجيا” الزمن الجميل الذي رحل كما رحل أهله.
ولأن الأمر كذلك، أصبحت أسئلة السياسة تدور داخل حلقة ضيقة ومفرغة يتبادل أهلها المنافع والامتيازات، ويطلقون الوعود الكاذبة، ويتقاسمون الحصص في “الكعكة” الكبيرة، كما اعترفت مرّة أمام الملأ برلمانية معروفة لكن القضاء المستقل (!!) لم يستطع أن يقول لها ولا لأندادها: “على عينك حاجب”!
وهكذا ليست هناك قضية في كل “المبادرات” التي يطرحها السياسيون، والمناورات التي يتخفون وراءها أكبر من قضية “الكعكة” التي يختلفون عليها تارة، ويتفقون تارة أخرى، وهدف الجميع إطالة عمر “العملية السياسية” الطائفية التي دخلت “صالة الإنعاش”، والسعي إلى إحيائها من جديد كي تتواصل دورة الاستحواذ والنهب واللصوصية.
خطوة الانتخابات انكفأت بفعل بقاء “الحيتان” الكبار أنفسهم ماسكين بأطراف اللعبة يشدّون حبالها ساعة، ويرخونها أخرى
تجري هذه اللعبة أمام عيون العراقيين بعد انقضاء سبعة أشهر على انتخابات برلمانية قيل إنها ستمهد الطريق لتغيير في السلطة والسلطان، لكنها لم تحقق ما كان مأمولا، وإن اعتبرها بعضهم خطوة على طريق التغيير، لكن هذه الخطوة انكفأت بفعل بقاء “الحيتان” الكبار أنفسهم ماسكين بأطراف اللعبة يشدّون حبالها ساعة، ويرخونها أخرى، ووراءهم قوى خارجية هيمنت على البلد واستأثرت بقراره.
وقد يجد القارئ في التذكير بما يضيق به المشهد السياسي من “مبادرات” و”مبادرات مضادّة” فرصة تسليةٍ تنسيه هموم الحياة وتصاريف الزمان، أولى هذه المبادرات أطلقها زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، وأعطى فيها الإطار التنسيقي الذي يرأسه خصمه اللدود، نوري المالكي، مهلة أربعين يوما كي يشكّل حكومته “التوافقية”، لكن الإطار رد بمبادرةٍ على شاكلتها داعيا إلى الحوار من أجل “الحفاظ على العملية الديمقراطية”، وعاد الصدر ليتوجه إلى “النواب المستقلين” مقرّرا منحهم “جائزة مغرية”، 12 وزارة إذا ما شكّلوا تكتلا وانضموا إلى مشروعه في حكومة “أغلبية وطنية”. والتفت المالكي هو الآخر إليهم معلنا عرضه المنافس، عدة وزارات، وترشيح من يرونه من “الشيعة!” لرئاسة الحكومة، وفكّر “المستقلون” أن يتكتّلوا ليمثلوا دور “بيضة القبّان” في اللعبة القائمة، لكنهم فوجئوا، كما فوجئ غيرهم، باعتراف الصدر بفشله في تحقيق ما أراده، داعيا كل الكتل، وبضمنها من تحالف معهم، إلى تشكيل الحكومة على أن يتحوّل هو إلى “معارضة وطنية”!
خفّفت واشنطن من اهتمامها بقضايا العراق في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية التي نشأت بعد نشوب حرب أوكرانيا
وهكذا لم تفضِ لعبة المدد والجوائز المغرية إلى حل، إنما وصلت إلى طريق مسدود وسط توقع بعضهم أن تتكفل قوى خارجية بتقديم “مبادرة الساعة الأخيرة” التي يمكنها رأب الصدع والتوافق على حكومة أمر واقع، كما حدث في أكثر من مرّة، إلا أن الظاهر أن القوى الخارجية المقصودة ليست في وارد التدخل المباشر اليوم، فواشنطن خفّفت من اهتمامها بقضايا العراق في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية التي نشأت بعد نشوب حرب أوكرانيا، ولم تعد مسألة تشكيل حكومة جديدة في بغداد من أولوياتها، بل قد تكون تلك القضايا عبئا عليها، وهذا ما لمحت إليه السفيرة الأميركية الجديدة في بغداد، اينا رومانوسكي، في إشارتها إلى أنها ستتعامل مع الحكومة الجديدة في إطار “تعزيز استقلال العراق وحقوق المواطن”، وإن نسبت مواقع تواصل إلكترونية إليها وضعها خطة عمل لأزمة الانسداد السياسي في العراق، تعتمد إعادة كتابة الدستور وفترة انتقالية وانتخابات جديدة، وحصر السلاح بيد الدولة.. إلى آخر “المعزوفة” التي أوردها “جنود” إلكترونيون فزعوا بآمالهم إلى الكذب.
وحتى إيران التي تعتبر قضية العراق من أولى أولوياتها، فقد اكتفت بما مارسته من ضغوط على أطراف “العملية السياسية”، بعد أن اطمأنت إلى أن “وكلاءها” ورجال مليشياتها ضامنون لها هيمنتها من خلال “الدولة العميقة” التي أنشأتها ورعتها عشرين عاما، وهم جاهزون لإجراء اللازم عند ظهور ما يشكّل خطرا عليها وعلى مصالحها.
وفي ظل استمرار هذا الليل العراقي الطويل، ليس ثمّة ما يحيي الأمل لدى الحالمين بالتغيير، والذين ربما سيترتب عليهم أن يواصلوا الحلم أربع سنين أخرى، وحتى تحدُث معجزة ما!