هل ستقوم جمهورية جديدة في العراق؟
فاروق يوسف- النهار العربي
منذ إسقاط النظام الملكي عام 1958 عُرف العراق بأنه بلد الانقلابات الدموية التي أدارها العسكر. سحقت الأحزاب بعضها بعضاً ولم تصل إلى نوع من الهدنة النسبية إلا في زمن جمهورية “البعث” في السنوات الأولى من سبعينات القرن الماضي.
أما في السنوات اللاحقة فقد اضطربت الأحوال بين حروب حزبية داخلية وحروب خارجية بدأت بحرب إيران (1980 ــ 1988) وانتهت بالغزو الأميركي عام 2003 الذي عبث بشكل الدولة الوطنية ومحتواها، وفرض على العراقيين نظام حكم لا يعتبر قاعدة لبناء جمهورية جديدة بقدر ما هو نوع من انتحال صفة الدولة التي ترعى الاختلاف الطائفي والعرقي لن يتمكن عراقي مستقل من أن يرى وجهه في مرآته. ذلك لأن عراق الانقلابات ظل في جوهره وطنياً. فعلى سبيل المثال لا يمكن للمرء التشكيك في وطنية البعثيين في أسوأ مراحل قسوتهم. أما العراق الأميركي فإنه خرج من الثبات على المبدأ الذي لا خلاف عليه ليكون صنيعة قدره فصار في ما بعد عراقاً إيرانياً. ذلك عراق آخر وتلك جمهورية لا يمكن أن يكون لها حيز في الخيال الشعبي العراقي الشغوف بالحكايات غير المكتملة التي تسعى إلى نهايات مجهولة. جمهورية الطوائف تنطوي على نهاية معروفة وهي الحرب الأهلية.
حاول الأميركيون أن يضعوا العراقيين على ميزان لم يكن ميزانهم. لذلك لم ينجح نظام المحاصصة في تشكيل جمهوريته. لقد تم الدفع بأحزاب الشيعية السياسية إلى مقدمة المشهد لكي تكون سيدة العراق الجديد. ذلك العراق الذي سيكون نواة للانقلاب على تاريخه. غير أن ذلك العراق كان ناقصاً، لا بسبب الغلو الطائفي، بل بسبب خلوه من السيادة الوطنية. ربما جذب ذلك العراق إليه الأكراد بسبب قوة الدعاية الانفصالية غير أن ذلك لم يكن مقنعاً بالنسبة الى عربه، شيعة وسنّة على حد سواء. دولة العراق الجديد التي دعا الأميركيون إلى قيامها واعتبروها انجازهم الوحيد بعد التخلص من صدام حسين لم تكن نواة لقيام جمهورية جديدة. كان العراقيون في حاجة إلى دافع داخلي لكي ينتقلوا من جمهورية “البعث” إلى فضاء جمهورية، يكملون من خلالها مسيرة حياتهم التي ستظل ناقصة بسبب المتاهة التي انفتحت طرقها أمامهم وهم يعرفون أن كل خطوة يلقونها في تلك الطرق تبعدهم من حلمهم في استعادة وطنهم الذي سُرق منهم على مراحل، مثّل الاحتلال فيها المرحلة الأكثر خطراً، ذلك لأنه وضع وطنهم على طريق اللاعودة إلى الدولة الوطنية.
غير أن ذلك الحل الأمريكي وقد فُرض بالقوة صار بعد نحو عشرين سنة أشبه بالبضاعة التي انتهت صلاحية استعمالها. ذلك لأن الأحزاب التي احتكرت تمثيل الطوائف لم تعمل على تطوير ذلك الحل وتحديثه وإضفاء الطابع الوطني عليه. لذلك بقي النظام السياسي غريباً عن العراق واستمر زعماؤه غرباء عن الشعب يحيكون المؤامرات، بعضهم على بعض في ظل ممارسات دنيئة للتسقيط وتشويه السمعة وهو ما دفعهم إلى تنظيم ملفات فساد يهددون بفتحها في محاولة للاستقواء من غير أن تكون هناك إشارة واحدة يهتدي من خلالها العراقيون إلى مخرج من المتاهة التي اختطفتهم دروبها.
لم تكن حروب الأحزاب من أجل بناء دولة بل من أجل الاستيلاء على ثروات تلك الدولة التي صارت افتراضية. لم تكن جمهورية العراق حاضرة في تلك الحروب التي كانت بمثابة العلامة التجارية للعراق الجديد. وهو عراق ضعيف لن يقوى على أن يكون دولة. وإذا ما كان البعض قد تحدث عن دولة فاشلة في العراق فإنه ارتكب خطأ عظيماً حين توهم أن هناك دولة يمكنها أن تنتقل من حالة الموت السريري إلى حالة الحياة الاصطناعية.
كان العراق موعوداً بحياة اصطناعية من أجل أن يستمر وعد الديموقراطية الأمريكية في ظل هيمنة الميليشيات الإيرانية. تلك معادلة عبث بها الشعب العراقي حين كرس قليله من أجل إسقاط أحزاب الأغلبية السياسية في انتخابات عام 2021. لقد اجتهدت الأقلية التي شاركت في الانتخابات في هزيمة الأحزاب التي اطمأنت إلى صبغتها الإيرانية. ولكن ذلك الإجراء سيكون موقتاً في ظل انقطاع اللغة بين الأحزاب والشعب.
لم تعد “التوافقية السياسية” صيغة مقبولة للحكم بعدما عبّر الشعب عن رفضه لذلك التعايش النفعي الهش بين الأحزاب، وفي المقابل فقد اتضح أن المسافة التي تفصل بين النظام السياسي وإمكان أن تقوم دولة جديدة صارت تزداد طولاً كما أن الأحزاب صار يهمش بعضها البعض الآخر بحثاً عن ضمانات شعبية، تقوم على أساس إشاعة نوع من الأمل في التغيير والإصلاح ومحاربة الفساد. غير أن كل ذلك الحراك الذي لا يمكن إخفاء جانبه الإيجابي على مستوى انهيار النظام من الداخل لا يفتح الباب تماماً على إمكان صعود قوى سياسية تملك الاستعداد لبناء جمهورية العراق على أسس وطنية، بعيداً من هيمنة البعد الطائفي الذي اعتبره الحزبيون قارب نجاتهم الذي يمكنهم استعماله في اللحظات الحرجة.
غير أن الارتباك الحزبي الذي ظهر من خلال تعثر المفاوضات بين المنتصرين والخاسرين الشيعة في الانتخابات، وهو تجسيد لتضعضع النظام السياسي إذا لم نقل انهياره، يستدعي القيام بخطوة متواضعة للخروج من المتاهة في اتجاه التفكير في الجمهورية الضائعة التي فقدت هويتها بعدما احتكر الأكراد منصب رئيسها وهو ما يعني أنها صارت نوعاً من المجاز الذي حقق الأكراد من خلاله حلمهم في إقامة دولتهم التي تقع خارج ترابهم التاريخي.
لذلك يمكن القول إن عجز الأحزاب عن الوصول إلى صيغة توافقية تكون بمثابة إعادة لإنتاج النظام هو بشكل أو آخر انعكاس للضغط الشعبي الذي ينطلق من الحاجة إلى جمهورية جديدة لا يمكن اختصارها بالنظام السياسي.