تهديدات أردوغان السورية بين رفض واشنطن وصمت موسكو
28-05-2022 | 09:02 المصدر: دمشق- النهار العربي
عسكر تركي في شمال سوريا
A+A-عادت السياسة التركية إلى ممارسة لعبة “حافة الهاوية” عبر التلويح بعمل عسكري جديد لقضم مزيد من الأراضي السورية مستندةً إلى قراءة خاصة للأوضاع الإقليمية والدولية التي شهدت تغييرات كبيرة بعد الحرب الروسية ضد أوكرانيا. غير أن الانفراجات التي خيمت على علاقات أنقرة بالغرب نتيجة تقاطع مصالحهما في الملف الأوكراني، أخذت، نتيجة مسارعة القيادة التركية إلى جني المكاسب بغض النظر عن الأثمان المطلوبة، تتحول إلى خناق بدأ يشتدّ تدريجياً على خيارات أنقرة الاستراتيجية، ويحشر إرادتها السياسية في زاوية ضيقة.
ورمى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سريعاً بأوراق القوة التي تجمعت في يده نتيجة تقاطع وتناقض العديد من المصالح الدولية جراء الحرب الروسية ضد أوكرانيا، وظنّ -ربما- أن ورقة انضمام فنلندا والسويد إلى حلف “الناتو” ستكون بمثابة الجوكر الذي يتيح له فرض قواعد اللعبة كما يريد، فجدد تهديداته القديمة / الجديدة بخصوص إقامة منطقة آمنة في محاذاة الحدود الجنوبية لبلاده مع سوريا، ملوحاً ببدء عمل عسكري جديد ضد “وحدات حماية الشعب الكردية” لتقطيع أوصال الكيان الكردي ولمنع تأسيس ما دأبت السياسة التركية على وصفه بممر الإرهاب. وكان الطّعم الذي حاول أردوغان استخدامه للإيقاع بخصومه في فخ الركون لأجندته التوسعيّة هو تبرير إقامة المنطقة الآمنة بتوطين مليون لاجئ سوري فيها باعتبار أن ملف اللاجئين يحظى بحساسية خاصة لدى الدول الغربية، لا سيما في ظل انشغال بعضها باستقبال ملايين اللاجئين الأوكرانيين. وفي الوقت ذاته كان أردوغان يأمل بأن يخفف مشروعه بخصوص إعادة اللاجئين السوريين من الضغوط التي يتعرض لها من خصومه في السياسة الداخلية. وتشير مسارعة أردوغان إلى التلويح بورقة “العمل العسكري” لفرض أجندته الخاصة بإعادة اللاجئين وإقامة منطقة آمنة، إلى أحد أمرين: إما أن أردوغان بدأ يستشعر مدى خطورة ملف اللاجئين على حظوظ حزبه في الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقرر إجراؤها العام القادم، وإما أنه بات أسير “الرهان العسكري” معتقداً أنه الخيار الوحيد الذي من شأنه أن يرمّم به شعبيته المتآكلة في الداخل التركي نتيجة التحديات الاقتصادية وتدهور سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار. وأيّّاً تكن الخلفية الكامنة وراء تجديد أردوغان تهديداته بشن عملية عسكرية جديدة في سوريا، فإن مما لا شك فيه أن التلويح بهذه الورقة أعاد السياسة التركية إلى ما قبل بدء روسيا الحرب ضد أوكرانيا، وبالأخص في ما يتعلق بعلاقته مع الغرب التي شهدت، بعد الحرب، انفراجات هامة نتيجة رغبة الولايات المتحدة في استقطاب تركيا لصفها بهدف فرض مزيد من العزلة السياسية والاقتصادية على روسيا. وهكذا لم تكد تمر سوى بضعة أيام على لقاء وزيري خارجية تركيا وأميركا في إطار “الآلية الاستراتيجية” بين البلدين والتي تهدف إلى حل الخلافات على صعيد العلاقات الثنائية والقضايا الإقليمية، والعمل من أجل التحرك معاً، حتى دفع التلويح التركي بعمل عسكري في سوريا الولايات المتحدة إلى الوقوف في وجه هذا التهديد واعتباره يمثل خطراً على “القوات الأميركية والحرب ضد تنظيم داعش” وهي لغة دبلوماسية تستبطن رفض واشنطن أي عمل عسكري تركي ضد حلفائها الأكراد. ونظراً الى أن التهديد التركي جاء عاماً ولم يحدد منطقة جغرافية محددة، بل لم يذكر سوريا بالاسم إنّما اكتفى بالحديث عن حماية الحدود الجنوبية لتركيا وهي تشمل شريطاً حدودياً طويلاً يمتد بين سوريا والعراق، فقد بدا أن الرفض الأميركي، الذي صدر أولاً من وزارة الخارجية الأميركية قبل أن يؤكده البنتاغون في دلالة الى عدم وجود ثغرة في موقف جناحي الإدارة الأميركية إزاء الموضوع، جاء بدوره متسرعاً وقاطعاً. ويعكس ذلك إدراك واشنطن مخاطر أي عملية عسكرية تقوم بها تركيا ضد مشروع “قوات سوريا الديموقراطية”، سواء كانت العملية ضمن منطقة خاضعة للنفوذ الأميركي في شرق الفرات أم خارجه في شمال غربي سوريا، لا سيما أن العمل العسكري الذي تهدد به أنقرة سيلغي تلقائياً مفاعيل الاستثناءات التي أقرتها واشنطن على قانون قيصر وسمحت بموجبها للشركات الأجنبية بالاستثمار في قطاعات معينة من اقتصاد منطقة شرق الفرات ما عدا قطاع النفط. ولا شك في أن موسكو شعرت بالارتياح وهي تتفرج على تصدي الولايات المتحدة للتهديدات التركية بينما كانت تلوذ هي بالصمت المطبق إزاء تصريحات أردوغان النارية. ولا يقف الارتياح الروسي عند رؤية العلاقات الأميركية – التركية وهي تخفق في تجاوز التحديات التي تحول دون تحسينها رغم الأجواء الإيجابية التي فرضها الملف الأوكراني، بل يتعدى ذلك إلى إدراك موسكو أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سيعود لطرق باب الكرملين من أجل السعي للحصول على صفقة ما تتيح له الظهور بمظهر القادر على تنفيذ وعيده. وقد يكون جيب تل رفعت – منغ في ريف حلب الشمالي الذي تنتشر في محيطه قوات مختلفة تتبع للأكراد وللجيش السوري والايرانيين والروس، المؤهل أكثر من غيره لاختبار مدى رغبة موسكو في عقد مثل هذه الصفقة. وسوف يكون لدى موسكو العديد من المطالب التي ستواجه بها رغبة أردوغان في القيام بعمل عسكري يحفظ به ماء وجهه، ومن أهم هذه المطالب: رغبة موسكو في قيام أنقرة بتنفيذ تعهداتها بخصوص إنشاء ممر آمن في جنوب الطريق الدولي “أم فور”، جنوب محافظة إدلب، وفتح الطريق أمام الرحلات التجارية لإنعاش المناطق التي يسيطر عليه الجيش السوري. وكذلك مراجعة أنقرة قرارها إغلاق أجوائها أمام الطائرات الروسية التي تقل جنوداً روساً إلى سوريا، وقد يكون أهم هذه المطالب هو حث انقرة على عدم الانزلاق في موقفها من الملف الأوكراني إلى ما يلبي رغبات شركائها في حلف “الناتو” من خلال زيادة الضغوط على موسكو لعزلها سياسياً واقتصادياً. وفي المحصلة، يبدو أن رهان أردوغان العسكري لتنفيذ أجندته التوسعية، ساهم في إلغاء الامتيازات التي قدمها الملف الأوكراني للسياسة التركية، لا سيما لجهة تحسين علاقاتها بالولايات المتحدة والغرب، وقد يعيد هذه العلاقات إلى مربع التوتر، وهو الأمر الذي سيصب من دون شك في مصلحة موسكو التي أصبحت تتقن التعامل مع طموحات إردوغان ولا تمانع في إعطائه ما يرضي غروره طالما أنه يدير ظهره لمطالب حلف “الناتو” في مواجهتها.