إشكالية الشرعية في الثقافة السياسية العربية
د. ماجد احمد الزاملي
إن للثقافة السياسية ، تأثير كبير على النظام السياسي بوجه خاص والحياة السياسية بوجه عام، إذ تنفع الأفراد والجماعات، أما باتجاه الانخراط بالنظام السياسي، أو باتجاه اللامبالاة السلبية السياسية, وحسب التقديرفإن التوافق بين الثقافة السياسية والبنية السياسية، ضروريا لتأمين إستمرار النظام السياسي، فإذا حصل التفاوت بينهما يتلكأ النظام ويتعرض حينئذ للزوال، ومع ذلك لا يكون التوافق کاملا على الدوام لعدم إمتلاك الثقافة السياسية التجانس الكامل، لأنّ الثقافة القديمة لا تُقوَّض كلياً ولا تستبدل إستبدالاً كاملاً بثقافة جديدة. إن المتتبع لمختلف المخاضات التي تعيشها بلدان الثورات في خضم تبلور سلوكيات وممارسات خارجة عن سياقات التدبير الديمقراطي لمرحلة ما بعد الثورة، يلحظ تبلور حالة من الغليان والتدافعات والتناحرات القائمة بين مختلف الفرقاء السياسيين والتي امتدت في المجتمع، والتي تتجاوز حدود المعقول والحكمة والفطنة، فما هو أكيد أن جُلَّ هذه الصراعات والاختلافات التي تعبِّر عن حالات التعصب الأيديولوجي وأيضًا الديني، وبشكل لا حدود له، يشكِّل عاملًا مغذيًا لانتصار قوى الدولة العميقة المضادة للثورة.
لقد أصبحت مشكلة الشرعية السياسية هي مشكلة الحكم المركزية في الوطن العربي ، وغيابها وضعفها يفسران الطبيعة المتقلبة للسياسات العربية، والطابع التسلطي والقهري لأغلب السلطات العربية الراهنة، فانعدام الاستقرار والفاعلية والفساد والقمع هي عناصر مقلقة في السياسة العربية اليوم، وما ذلك إلا نتيجة لضآلة الشرعية للحكام والبنى السياسية والأيديولوجية السائدة. والنجاح الحقيقي للأنظمة السياسية هو إخفاء الحقد الشعبي وتأجيل الانفجار، بتحكمها بوسائل الإعلام الداخلية، ورقابتها الصارمة على إمكانيات الإعلام الخارجي في رصد الأحداث، والتفوق الهائل المتراكم في عمل أجهزة المخابرات العسكرية والأمنية والسياسية، وتحديثها المستمر بالتقنية والتدريب والإغداق الأدبي والمالي. إن السلطة في الوضع العربي الراهن هي (حاضنة) الدولة، وليس العكس أو كما يجب أن يكون، لذلك فإن القضاء على (الحاضنة) يتضمن تهديد وليدها بالخطر وربما بالموت، ولعل الإحساس الغريزي أو العفوي لدى عامة المجتمعات العربية بهذا الواقع الخطر، وهذه المفارقة المرة، هو من ضمن الأسباب التي تساعد الأنظمة السياسية العربية الحالية على الاستمرار في مواقع السلطة؛ السلطة التي تتماهى مع الدولة ومع الكيان العام للوطن، بحيث إنها لو انهارت انهار معها هذا الكيان (الدولة). وتنص سائر الدساتير العربية على مبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، لكن الممارسة تكشف في أحيان كثيرة عن فجوة بينها وبين النصوص القانونية، من خلال احتكار أقليات سياسية أو حزبية أو سلالية للسلطة وممارسة التمييز ضد بعض الفئات الاجتماعية والأقليات، كما يحدث في أحيان كثيرة أن تأتي القوانين الأخرى مُقيِّدة لما أباحه الدستور. وعادة ما تميز الدساتير العربية بين الحريات العامة، مثل حرية الاعتقاد والعمل والتنقل والملكية، التي تبدي تلك الدساتير إزاءها درجات مختلفة من التسامح والمرونة، والحريات ذات الطابع السياسي، كحرية التنظيم والإضراب والرأي والتعبير، والتي غالبا ما تُحاط بالقيود، وهناك دساتير تكفل هاتين الحريتين معا لكنها تقصرهما على الالتزام بإيديولوجية الدولة، فيما لم تتضمن بعضها أية إشارة لهاتين الحريتين.
وفي عصرنا الحديث نجد أن ماكس فيبر يُعد من الرواد في الأخذ بهذه التسمية، حيث نظر إلى الشرعية بوصفها صفة تنسب لنظام ما من قبل أولئك الخاضعين له، من خلال عدة طرق تتمثل في التقاليد أو بعض المواقف العاطفية أو عن طريق الاعتقاد العقلاني بقيمة مطلقة، أو بسبب قيامه بطرق وأساليب تعد قانونية أو شرعية مقبولة. هذا يعني أنه يعرّف ثلاثة أنواع من الشرعية: التقليدية، والكاريزمية، والشرعية العقلانية. ويكون الولاء والالتزام في النوعين الأول والثاني إلى شخص (رئيس تقليدي، أو زعيم بطل أو زعيم روحي)، أما في النوع الثالث، فتكون الطاعة والقبول لشبكة المؤسسات المبنية بصورة شرعية التي تحمل الطابع الفردي، والشرعية في الأنواع الثلاثة كلها معرّفة في سياق قبول المجتمع بحكومته وزعمائه. أما السلطة الملهمة (الكاريزما) فقد لاحظ ماكس فيبر أن الكاريزما مصدر مهم للشرعية في المجتعات غير القائمة على أسس تامة من العقلانية. وتقوم هذه السلطة على الولاء المطلق لقدسية معينة استثنائية، وترتبط بزعيم بطل مهاب تاريخي وصاحب رسالة، له فضائل وخصال يَعدَّها أعضاء المجتمع خارقة، ويقرن وجوده أحياناً، أو هكذا يراد بمساندة قوة عليا (غيبية أو إلهية). وقد ارتبط هذا النمط في المجتمعات الحديثة ببعض القادة السياسيين أو الوطنيين، سواءً من قادة الدول أو زعماء الأحزاب السياسية، وفي هذا النمط يصير أساس شرعية السلطة هو اعتقاد الجماهير وإيمانها بالقائد، وإيمانه بنفسه، بما يتصف به من خصال وسمات فريدة. ومن هنا ترتبط السلطة ارتباطاً وثيقاً بشخص القائد الذي لا يتقيد بأي قواعد أو ضوابط قانونية حديثة أو عرقية متوارثة، ويعتمد على التأثير العاطفي في الجماهير، ويتصرف وكأنه الوحيد القادر على تقرير مصير المجتمع وتجسيد أهدافه.
وقد تكون أزمة الشرعية في أساسها مشكلة دستورية ومؤسسية، وتبلغ ذروتها عندما يرفض الناس تقبّل المؤسسات الرسمية، وهو ما قد يكون أكثر وضوحاً في دول العالم الثالث، وذلك من أن المؤسسات السياسية في دول العالم الثالث تفتقر إلى الشرعية عندما تكون امتدادً للمؤسسات التي كانت قائمة في عصر الاستعمار، كما أن المؤسسات الشرعية قد تفقد شرعيتها عندما تقع في أيدٍ فاسدة، أو عندما تواصل إصدار مخرجات سياسية غير مقبولة شعبياً، أو عندما تكون غير قادرة على مواجهة المطالب والتكيّف مع الظروف المتغيرة . لقد قامت أغلب السلطات والأنظمة السياسية العربية على أساس تعسفي، وهي تمارس العنف في السياسة والاجتماع، وهي تفتقد الشرعية التاريخية، وشرعية الإنجاز، ولا يبرر وجودها سوى تأمين مصالح أصحاب السلطة وشركائها المنتفعين بها، وكانت محاولات إصلاح الأنظمة السياسية العربية بشرعية قائمة على الانقلابات العسكرية والثورات مزيدا من السقوط في الاستبداد والتخلف السياسي والتنموي، ومن ثم فإن التفكير في العنف لتغيير الوضع القائم هو تفكير يجب استبعاده للخروج بدرس مفيد من حقبة الانقلابات والثورات وويلاتها التي جرتها على الوطن العربي، وهذا ما ظهر بالفعل في بعض بلدانه، فقد عجزت جميع الفئات المتصارعة عن حسم الموقف، وانتهى الحال إلى كارثة تعصف بالأوطان والناس والموارد والمستقبل والتاريخ.
وهذا المفهوم للشرعية يتقابل مع مفهوم البيعة في التراث العربي الإسلامي، فالبيعة، كما يقول ابن خلدون (هي العهد على الطاعة كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وبأمور المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره، وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد). ومع أن هذه الأنظمة كانت في فترة ما قادرة على استيعاب بعض صور المعارضة، إلاّ أنها ضاقت في السنوات الأخيرة، حتى بتقبل المعارضة الصورية، وأصبحت ظاهرة استمرار النظام الحاكم مصاحبا للتفرد في القيادة والفكر والإيديولوجيا، وأكثر من ذلك تجسيد ظاهرة أبوية الحكام. أما على مستوى الوضع الدستوري، فعلى الرغم من أن كل الدساتير العربية تظهر حالة من التوازن بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، إلاّ أن واقع الحال يوضح سيطرة السلطة التنفيذية التي هي في الأساس سلطة الحاكم أو رئيس الدولة وامتداداته على السلطة التشريعية. إن مسألة الحكم المركزية في العالم العربي هي مسألة الشرعية السياسية. فالنقص الحاصل في هذا العنصر السياسي الذي لا غنى عنه، هو السبب الأكبر للطبيعة المتقلِّبة للسياسة العربية وللسمة الاستبدادية وغير المستقرة للحكومات العربية القائمة ”(1).
أن مشكلة الشرعية في الوطن العربي تمتد إلى خارج حدود السيادة القطرية. ومن المصادر الخارجية للشرعية العربية يمكن تركيزها في طائفتين أساسيتين: أولهما – تتمثل في النفوذ الذي يمكن تعريفه عموماً بالإحالة إلى الأدوات التقليدية للسلطة كالتهديد والإكراه والوعود والمكافآت التي تعمد النظم والحركات المجاورة إلى استخدامها، فمن المفهوم مثلاً أن دولة معينة سوف تتدخل في شؤون الأقطار المجاورة عن طريق شرعية قائد سياسي أو نظام سياسي معين. وثانيتهما – تتجسد في مجموعة من المعايير التقويمية للمواقف والتوجهات والسياسيات، وبالتالي للشرعية، وتتلخص هذه المجموعة من المعايير في القضايا العربية المحورية، أي أن شرعية قائد معين في قطر عربي أو آخر تتحدد إلى حد بعيد بمدى التزامه بهذه القضايا العربية المحورية، وتعتبر قضية فلسطين في أول قائمة هذه القضايا.
وبرغم غياب التوافق الكامل بين الثقافة السياسية والبنية السياسية، يستمر التوافق بينهما على أي مستوى كتعبير عن التكامل بين أبناء المجتمع المختلفة لكل نمط من الثقافة السياسية ما يقابله من البنى السياسية. فالمطلوب من كل القوى السياسية والمجتمعية الانخراط الإيجابي في إنجاح الاستحقاق الديمقراطي بغضِّ النظر عن هويتها الأيديولوجية والسياسية، على أساس أن تتشكَّل أرضية للحوار الجاد والتفاهم والتوافق على مجموعة من المنطلقات والبناءات والمرجعيات والمبادئ التي من شأنها أن تؤسس لعملية الانتقال الديمقراطي في سياق تحصين مطالب ومكاسب الثورات، التي شكَّل الشباب قوتها وجوهرها. والوعي السياسي هو إدراك الفرد لواقع مجتمعه ومحيطه الإقليمي والدولي، ومعرفة طبيعة الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تحيط به، ومعرفة مشكلات العصر المختلفة، وكذلك معرفة القوى الفاعلة والمؤثرة في صناعة القرار وطنيًّا وعالميًّا. والوعي السياسي هو طريق الفرد لمعرفة حقوقه وواجباته في كل الأنظمة الديمقراطية أو الشمولية. والمجتمعات التي تنوي التحول من النظام الديكتاتوري إلى النظام الديمقراطي بحاجة إلى منظومة من المعارف السياسية التي تتضمن قيمًا واتجاهات سياسية مختلفة، يستطيع من خلالها الفرد التعرف على الظروف والمشاكل التي تحيط به محليًّا وعالميًّا. إنَّ التحديات التي يتعرض لها الوطن العربي اليوم باتت أكبر من أن يُغض الطرف عنها، فالمشروع الأميركي الإمبريالي بصيغة احتلالية قد بات داخل الوطن العربي، لا على حدوده أو يهدده، بل احتل جزءا منه ويمهد لمتابعة المسير في ذلك. وأصبح موضوع السلام مع الكيان الإسرائيلي مرتبطا بمشيئة هذا الكيان وبشروطه، وعلت أصوات تحاول عدم إعادة اللاجئين الفلسطينيين إلى موطنهم والتغاضي عن موضوع القدس بالتطرق فقط إلى ” القدس الشرقية “. في حين باتت الهوية القومية العربية بل والوطنية مهددة بالزوال في مشروعات إقليمية تجعل أولوية لدول الجوار بما فيها وأولها الكيان الإسرائيلي. في حين ارتهنتت الثروات العربية في مجملها للقوى الغربية الاستعمارية وبات معظم أبناء الوطن العربي مهددون بالفقر خلال سنوات قليلة، وهو ما قوَّض أيضا أي مشروع تنموي يمكن أن يظهر على المستوى المنظور. إضافة إلى تشظي المجتمعات العربية إلى عشائرية وطائفية وإقليمية تزيد من تهديد الهوية العربية الواحدة. عدا عن تعاظم خطر بعض الأقليات العرقية الانفصالية في الوطن العربي التي بدأت تشكل كيانات قد تكون نواة انفصال عن دولها. عدا عما يعانيه الوطن العربي من حركات تكفيرية تستخدم الإسلام كغطاء لعملياتها الإرهابية. جميع هذه التحديات وسواها، تُشَكل فيما تشكله تحدياً قوياً أما شرعية كل نظام عربي، حيث يقع على عاتقه مواجهتها جميعا في آن واحد، فإن بقيت الأنظمة العربية على أساليبها التقليدية في تغييب الشعوب وقمعها وامتطاء الركب الأميركي فهذا قد يعني زوال الأنظمة والأوطان وتشرد الشعوب وضياعها في جملة هذه المخاطر والتحديات.
———————————–
1- د. خميس والي، إشكالية الشرعية في الأنظمة السياسية العربية: مع إشارة إلى تجربة الجزائر (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة أطروحات الدكتوراه 44، الطبعة الأولى، شباط 2003) .