مقالات

اللجوء إلى الروبل

جودة مرسي:


شهد الروبل الروسي هبوطًا كبيرًا في قيمته الشرائية خلال فترات زمنية سابقة بسبب ترنح أسعار النفط عالميًّا، أو العقوبات المفروضة على موسكو من الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، وكان الهبوط متمثلًا في قيمة العملة الروسية في التعاملات، سواء على المستوى الدولي أو في الداخل الروسي خلال تعاملات أسواق الأسهم، خصوصًا في فترات انخفاض أسعار النفط العالمية كما حدث في أعوام 2014 وبدايات 2015، ولم تقم له قائمة أو يشهد أي تعافٍ مع الارتفاع النسبي في أسعار النفط واستقرار أسعاره نسبيًّا في نهاية العام 2015، ومع ذلك لم تفلح الجهود الكبيرة التي بذلها البنك المركزي الروسي لتثبيت سعر الروبل، من خلال رفع سعر الفائدة بشكل كبير من 10.5% إلى 17% خلال تلك الفترة. الأمر الذي أدى إلى تغذية معدلات التضخم المرتفعة حينها، ومما زاد الأمر تعقيدًا في تلك الفترة العقوبات التي تسببت في منع البنوك والشركات الروسية من الوصول إلى الأسواق المالية الغربية. وهي مطالبة في تلك الفترة بتسديد أو تمويل نحو 300 مليار دولار من الديون.
أتذكر تلك الأحداث وأنا أشاهد ما لم يتوقعه أكبر خبراء الاقتصاد والمال مما يجري حاليا من مواصلة الروبل الروسي لتعزيز مكاسبه أمام العملات الأجنبية الرئيسية في العالم مثل الدولار واليورو، حيث وصلت قيمة التداول في الدولار الأميركي دون مستوى 67 روبل “3ر77 روبل لكل دولار في الأيام الأولى للتحرك الروسي تجاه أوكرانيا”، وجرى تداول اليورو بتراجع ملحوظ دون مستوى 70 روبل للمرة الأولى منذ فبراير 2020.
ما جعل خبراء المال والاقتصاد يفسرون تعزيز مكانة الروبل بإجراءات البنك المركزي الروسي لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والمالي، وكان أولى هذه الخطوات التي تزامنت مع الأسابيع الأولى من الحرب الروسية الأوكرانية والتحالف الغربي الممثل في حلف الناتو المساعد لأوكرانيا، والذي اتخذ خطوات غير مسبوقة مع الولايات المتحدة في فرض العديد من العقوبات الاقتصادية والمالية الكبيرة على روسيا، ومن أبرز الخطوات التي تم اتخاذها من جانب موسكو هو تصدير الطاقة الروسية (النفط والغاز) للغرب بالروبل الروسي الذي يتم الحصول عليه مقابل الذهب لا العملات الورقية الأخرى مما زاد من مخزون الذهب لديها، إلزام المصدرين في روسيا ببيع 80% من عائدات النقد الأجنبي في بورصة موسكو، مما أدى إلى زيادة مستمرة في المعروض من العملات الأجنبية في السوق المحلية، وكذلك توجُّه السياحة الروسية إلى المزارات المحلية عوضا عن السفر للخارج.
إن الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها موسكو منذ بدايات الحرب مع أوكرانيا اعتمدت جميعها على إجراءات محلية خالصة هي تتحكم فيما تصدره وتنتجه، توجه سياحتها إلى الداخل، كيفية التعامل مع النقد الأجنبي في البورصة المحلية، لديها مصانعها التي تنتج أكثر أسلحة في العالم تطورا وتأثيرا، أي أن كل قراراتها لم تعتمد إلا على المنتج الروسي، فضلًا عن أن العالم تأثر بندرة المنتجات التي تصدرها روسيا للعالم مثل القمح وعناصر الطاقة ومكوِّنات وأدوات صناعية أخرى، وهذا يبين مدى قوة الإمكانات المملوكة للدولة الروسية التي لم تظهر أي ضعف أو تأثر رغم دخول الحرب شهرها الرابع.
إن الحرب الروسية الأوكرانية أظهرت العديد من المفارقات، والتي في المقدمة منها، التأثير الاقتصادي، وهو الذي دفعنا للوج إلى الفارق بين الروبل الروسي سابقا وحاليا وما أوصله إلى هذه المكانة من ارتفاع لقيمته عالميًّا في ظل حرب لا هوادة فيها تستنزف يوميا المليارات مع وجود عقوبات دولية غير مسبوقة. وفي ظل كل هذه الأحداث ترتفع قيمة الروبل ويستفيد الاقتصاد الروسي، فهل تنتهي الحرب قريبًا ويخرج الاقتصادي الروسي أكثر ازدهارًا عمَّا قبل الحرب والعقوبات الاقتصادية، أم يكون اللجوء إلى الروبل لجوء اقتصادي معادلا للجوء السياسي؟