العراق.. منظومة الحكم ومأزق مقتدى الصدر
إياد العنبر19 يونيو 2022
لم تكن دعوة السيد مقتدى الصدر لأعضاء كتلته في البرلمان إلى الاستقالة هي الخطوة المفاجأة، وإنما ثبات الصدر على موقفه في تشكيل حكومة أغلبية وطنية ورفضه المشاركة في حكومة توافقية أو (خلطة العطار) كما أسماها هو الموقف الأكثر مفاجأة!
والمفاجأة الثانية، هي تجاوز خيار الذهاب إلى المعارضة التي كان الصدر يلوح بها في دعواته لخصومه في الإطار التنسيقي للذهاب نحو تشكيل حكومة مِن دون الصدريين.
يدرك خصوم الصدر وحلفاؤه، على حد سواء، المأزق الذي تواجهه منظومة الحكم في حال خروج الصدريين منها. لكن المأزق الأكثر تعقيداً سيكون في مواجهة القوى السياسية الشيعية؛ لأنَّ الصدر رقم صعب في مناطق نفوذهم، ولا يمكن التكهن بخطواته اللاحقة.
وفي الوقت الذي كان الخوف من انفراد مقتدى الصدر بالحكومة قد وحَّدَ قوى الإطار التنسيقي وحلفائهم في الثلث المعطّل، فيبدو أن غياب الصدر سيكون عاملاً في ظهور خلافات تلك القوى على السطح.
ومن زاوية أخرى، على الرغم من عدم إعطاء أهمية لمصداقية الخطاب السياسي والثبات على المواقف قبل تشكيل الحكومات أمام الجمهور والرأي العام، وإن كان مبدأ تقاسم مغانم السلطة يعلو على جميع الخلافات السياسية، بيد أن مأزق قوى الإطار التنسيقي سيكون واضحاً في التناقض بين خطاب التخوين والتآمر على المكون الشيعي من قبل الأطراف السياسية التي كانت شريكاً للصدريين في (تحالف إنقاذ وطن)، وبين التوجه نحو التحالف معهم من أجل التوافق على تشكيل الحكومة القادمة!
ناهيك عن الاشتراطات التي يمكن أن يضعها السيد مسعود برزاني للمشاركة في حكومة الإطار التنسيقي والتي ستكون اختباراً صعباً أمام العنتريات التي كان يلوح بها بعض زعاماته.
اختيار الصدر الخروج من دائرة تشكيل الحكومة القادمة، ربما تكون استراتيجية جديدة يتبعها للانقلاب على المنظومة الحاكمة من خارجها، بعد أن كان يسعى إلى الانقلاب عليها من الداخل بتشكيل حكومة الأغلبية الوطنية، والتي رفعها شعاراً في الانتخابات وبقي متمسكاً بها.
ويبدو أن الصدر اختار الانتقال إلى الخطة (ب) بعد فشل الخطة (أ) التي حاولت تغيير معادلة مشاركته في الحكومات السابقة انتخابات أكتوبر 2021، إذ أراد الصدر الانتقال من “شريك” في تشكيل الحكومات السابقة إلى السعي نحو تشكيل حكومة بقواعد جديدة تنقلب على منظومة التوافقية والانقلاب على العرف السياسي الذي تأسس منذ أول حكومة بصلاحيات كاملة في 2005، والقائم على أساس (الجميع مشارك في الحكومة، والجميع يعارض الحكومة).
يدرك الصدر تماماً، أن انسحابه من المشاركة في الحكومة يعني التضحية بالابتعاد عن دائرة النفوذ السياسي السلطوي، والذي يعني الاختلال في معادلة النفوذ السياسي للصدريين التي سعى إلى تمركزها في مشاركتهم في الحكومات السابقة، والتي تقوم على أساس تقوية وتوسيع النفوذ الاجتماعي من خلال بوابة القوة والتغلغل السياسي في مؤسسات الدولة.
لكنَّ زعيماً سياسياً، مثل مقتدى الصدر، الذي يستند إلى رمزيةٍ دينية وعلاقته مع جمهوره تقوم على مبدأ السمع والطاعة، لا يتخوّف من خسارة النفوذ السياسي في هذه الفترة، بل يعدّه مكسباً لتغيير الصورة النمطية التي رسمت على وفق مواقفهِ السابقة بالانسحاب والتراجع وعدم الثبات على موقف سياسي، فالثبات على رفض المشاركة في حكومة توافقية يُعد موقفاً يحسب لِلصدر.
ومن جانب آخر، انسحاب الصدر من تشكيل الحكومة موقف يكسب مِن خلاله المشككين في نواياه نحو الإصلاح السياسي ويجعله قريباً مِن الجمهور بعد أن كان يُتهَم بشراكته في المنظومة الحاكمة التي أنتجت الخراب والفساد والفوضى.
وعلى المدى البعيد، ربما لا يدرك خصوم الصدر خطورة قرار الاستقالة من البرلمان، فالبعض منهم يعده انتصاراً لِقوى الإطار التنسيقي التي عطلت مشروع الصدر في تشكيل حكومة أغلبية. والبعض الآخر، يعدّه مكسباً لأنّه يسمح بتزايد أعداد مقاعده داخل البرلمان، ما يعني زيادة حصته في الوزارات عند تقسامها في تشكيل الحكومة القادمة.
وهناك من بعض زعامات قوى الإطار تعتقد أن انسحاب الصدر يُعد فرصة لاستعادة حظوظها في الحصول على رئاسة الوزراء. لكنّهم يدركون تماماً، أنَّ غياب تمثيل الصدر عن الحكومة والبرلمان سيبقى تهديداً بالانقلاب على المسرح الشيعي العراقي برمته، إذ أنه سيهدد المكاسب المؤقتة التي يمكن أن يحصل عليها قوى الإطار التنسيقي في الحكومة التي يشكلونها، وربما يهدد مستوى تمثيلهم في الانتخابات القادمة.
لذلك، سيبقى مأزق الفرقاء السياسيين مع الصدر في عدم القدرة على الاستجابة لمطالبه التي يعدّونها بدايةً لخسارة نفوذهم وسطوتهم، فلا هم قادرون على شطبه وتجاهله، ولا هم قادرون على تنظيم التعامل معه.
وخطورة تحول مقتدى الصدر مِن شريكٍ في منظومة الحكم إلى خصمٍ لها، تجعل الموضوع أقرب إلى فرضية إشعال عود الكبريت وسط براميل البارود. لأنَّ احتمالية نجاح الطبقة السياسية في تشكيل حكومةٍ قوية قادرة على الاستجابة لمتطلبات الجمهور وسحب البساط من قدرة الصدريين على تحريك الشارع، ضعيفة جدّاً!
وهذا يعود إلى أن التفكير السياسي المهووس بتقاسم غنائم السلطة الذي يسيطر على مخيلة زعامات الطبقة السياسية، لا يمكن التعويل عليه بإنتاج حكومة بشخصيات صاحبة رؤية وشجاعة في اتخاذ القرار ومواجهة الأزمات.
ورغم ذلك، ليس بالضرورة أن يكون انسحاب الصدر واستراتيجيته بالانقلاب على منظومة الحكم من خارجها، حلاً لأزمة النظام السياسي الذي تأسس على قاعدة الصفقات والتوافقات، بل ربما يكون بدايةً لمأزق سياسي لا يمكن تجاوز مخاطره بسهولة، ولا يمكن التكهن بتكلفة خسائره، ولكنّه ربما ينتج حَلاً مِن خلال إعادة ترتيب معادلة نفوذ قوى السلطة التقليدية ويجعلها تخسر جميع حظوظها السياسية.