القانون الدولي وتجارة الحروب السوداء
الاثنين – 12 ذو الحجة 1443 هـ – 11 يوليو 2022 مـ رقم العدد [15931]
داود الفرحان كاتب عراقي
شهراً بعد شهر، تتحول الحرب الروسية على أوكرانيا إلى «حرب مزمنة» لا ينفع معها نصر هنا أو هزيمة هناك، لأجل تحقيق سلام دائم. نحن الآن أمام سيناريوهات مبتورة، نصفها في موسكو ونصفها الآخر في كييف، مع الأخذ في الاعتبار عدم تكافؤ القوة والخبرة لصالح روسيا.
لم يتردد الخبراء في تخيل سيناريوهات محتملة لانتهاء هذه الحرب، تبدأ من حيث هي قائمة، أي «حرب استنزاف» تمتد سنوات دامية. أو يعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقف إطلاق النار من الكرملين أو دونباس أو ميناء ماريوبول. لكن الرئيس الروسي غير متحمس لهذا السيناريو رغم أنه لن يخسر شيئاً، بالعكس سيربح «نصراً افتراضياً» يوقف الاستنزاف الدموي والاقتصادي والعمراني. وفي المقابل لا يريد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي «نصراً» لبوتين حتى وإن كان «افتراضياً».
هذا النوع من الحروب يُجهد الشعوب المشاركة في خطوط القتال، وهي حرب متعبة ومملة ومريرة، لا يتمناها بوتين ولا يسعى إليها زيلينسكي. وقد مرّت بالشعبين العراقي والإيراني هذه الحالة العسيرة في حرب الثماني سنوات بين الحياة والموت، قبل أن «يتجرع» الخميني كأس السم مثلما قال، ويعلن موافقته على وقف إطلاق النار (1988).
يعرف السياسيون والعسكريون أن ظروف ما بعد أي حرب ليست هينة، ويمكن أن تطول لسنوات عديدة، ويكفي أن آثار ومفاوضات وتعويضات الحربين العالميتين الأولى والثانية ما زالت مستمرة حتى اليوم. كل الحروب تنتهي في يوم من الأيام؛ لكن هذا لا يعني أن ظروف ما بعد الحرب سهلة وآمنة؛ خصوصاً إذا ارتبطت بشروط وتعويضات واقتطاع مساحات من الخرائط، وإطلاق سراح معتقلين، والبحث عن مفقودين. فالقانون الدولي يُلزم الدولة المسؤولة عن انتهاكات القانون الدولي الإنساني بالتعويض الكامل عن الخسائر، أو الأذى الذي تسببت فيه الانتهاكات أو المقابر الجماعية أو الممتلكات الخاصة والعامة، وحتى البنية التحتية من جسور وطرق وجامعات ومدارس ومستشفيات ومطارات. وتُكرس ممارسة الدول هذه القاعدة كإحدى قواعد القانون العرفي المطبقة في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية. وإحدى المرجعيات الحاكمة في هذا المجال اتفاقية جنيف (1949) بشأن حماية الأشخاص المدنيين في ظروف الحرب. وعلاوة على الأحكام التي تسري في وقت السلم، تنطبق هذه الاتفاقية في حالة الحرب المعلنة أو أي اشتباك مسلح آخر ينشب بين طرفين أو أكثر من الأطراف المتعاقدة، حتى لو لم يعترف أحدها بحالة الحرب. وتشمل الاتفاقية أيضاً جميع حالات الاحتلال الجزئي أو الكلي لإقليم أحد الأطراف المتعاقدة.
بعد الحرب العالمية الثانية، اضطرت كل من ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية إلى دفع تعويضات الحرب لحكومات الحلفاء الغربيين، وفقاً لمؤتمر بوتسدام، وتنازلت ألمانيا عن ربع أراضيها وفقاً لحدود 1937 إلى بولندا والاتحاد السوفياتي، بينما تم إلزام دول المحور الأخرى دفع تعويضات الحرب وفقاً لمعاهدة باريس للسلام 1947. وكانت الخطة المبكرة لألمانيا ما بعد الحرب هي خطة مورغنثاو التي وضعت شروطاً من شأنها تحويل ألمانيا من مجتمع صناعي إلى مجتمع زراعي، وهذا أغرب بند في التعويضات، ولم توافق ألمانيا عليه، رغم قيام قوات الحلفاء بتفكيك معظم المصانع العسكرية والمدنية الضخمة، كنظام السكك الحديدية، ونقلها إلى خارج الحدود. كما تمت السيطرة على الأسطول التجاري الألماني وجميع السفن الموجودة، وكذلك مصادرة الأسهم الأجنبية البالغة حوالي 2.5 مليار دولار. وجرى الاستيلاء على شحنات كبيرة من الصلب والفحم ونقلها إلى خارج ألمانيا. والأنكى من ذلك صادر الحلفاء كميات كبيرة من براءات الاختراع وحقوق النشر والعلامات التجارية الألمانية، بقيمة عشرة مليارات دولار. وتم إجبار ملايين الألمان على العمل القسري عند الحلفاء في المخيمات أو التعدين أو الحصاد أو الصناعة. وقصة التعويضات لا تنتهي، ففيها بولندا وتركيا واليونان واليابان وإيطاليا وهولندا ويوغسلافيا السابقة أيضاً.
وفي اتجاه لتعزيز الحماية العامة لسكان دول المحور من بعض عواقب الهزيمة، تم شمولهم بتخفيف أي تمييز مجحف يتعلق بالعنصرية أو الجنسية أو الدين أو الآراء السياسية.
ومن جهة أخرى، فإن قانون الحرب لا يجيز بأي حال الهجوم على المستشفيات المدنية المكلفة تقديم الرعاية للجرحى والمرضى والعجزة والنساء والحوامل. ويَحظر على دولة الاحتلال أن تدمر أي ممتلكات خاصة ثابتة أو منقولة تتعلق بأفراد أو جماعات أو سلطات الدولة العامة أو المنظمات الاجتماعية والقانونية، إلا إذا كانت العمليات الحربية تقتضي حتماً هذا التدمير.
في الحرب الأميركية البريطانية على العراق في عام 2003 لاحتلاله وتغيير النظام السابق، بلغ عدد ضحايا الفتنة الطائفية وحدها مليون شخص، استناداً إلى إحصائية نشرتها صحيفة «الغارديان». وشارك في إحصاء أرقام الجثث العسكرية والمدنية صحف أخرى، ومشروع «بدائل الدفاع» في معهد الكومنولث بمدينة كامبريدج، وهيئة الإذاعة البريطانية التي أوضحت أن الأرقام ربما تكون أقل من الواقع، بسبب عدم التبليغ عن الضحايا أو فقدان الجثث أو عدم تسجيلها من قبل المسؤولين الطائفيين، أو امتناع وسائل الإعلام المحلية عن نشر هذه الجرائم.
وبشجاعة، وجهت مجلة «ذا لانسيت» العلمية البريطانية الموثوقة اتهامات مباشرة إلى الجيش الأميركي، باستخدام اليورانيوم المنضب والمواد الكيمياوية، ما تسبب في حالات العيوب الخلقية والسرطان والإجهاض والولادات المبكرة والأمراض المعدية، في المدن التي تعرضت لهجمات أميركية قاتلة.
حتى الآن لم تعوض الولايات المتحدة العراق عن خسائره في الأرواح والممتلكات والعلماء والأساتذة والعقول المهاجرة بموجب قانون الحرب؛ بل إن صور بعض الجنود الأميركيين وهم ينهبون السبائك الذهبية من البنك المركزي العراقي تملأ المواقع الإلكترونية، ولا تحتاج لشهود. المشكلة ليست في الولايات المتحدة فقط، وإنما أيضاً في عدم وجود من يطالب بتعويض العراق عن هذه الحرب، وجرائم ارتُكبت بناء على معلومات مضللة وملفقة وكاذبة عن امتلاك العراق أسلحة دمار شامل؛ بينما من تمتلك هذه الأسلحة هي إيران التي تحتل العراق تحت سمع وبصر أميركا التي فرضت تعويضات بمئات مليارات الدولارات على العراق. إنها تجارة الحروب السوداء.