بيتنا الكبير .. الى أين ؟

2

حنان اويشا

يراودنا هذه الايام شعورا اقل ما يمكن وصفه بانه .. ألم ..أحباط .. يأس ولا نخفي بانه يمر في النفوس بين وقت وآخر كلما واجهتنا ظروفا صعبة في بلدنا، الا ان هذه المرة بوتيرة اعلى وربما اعمق .. وما يزيد من عمقها، القناعة التي طالما عشناها وعاشت فينا مذ بدأنا نعي معاني الانتماء والولاء والتضحية ..
تلك الحالة التي رسخت في نفوسنا ونمت فينا حتى اصبحت جزءا مهما من حياتنا وشخصيتنا ، بان ( ليس هناك بديل حقيقي عن وطن الانسان مهما تفاقمت مآسيه وويلاته ) .. وربما ترسخت بسبب ذلك الارتباط الوثيق بارض ادركنا ثمنها مبكرا، ورغم وعورة الحياة فيها فضلنا العيش والبقاء فيها .. ولكن وللأسف ان تثميننا لها بات تهمة قد نحاسب او نلام عليها ان صح التعبير.. ما يمر به بلدنا هذه الايام وبوادر تقسيمه وتشتيت ابنائه يدفعنا الى تساؤلات مع النفس والذات .. تساؤلات شخصية بعيدة عن كل ما قيل ويقال عن الاستفتاء او الاستقلال واحقيته من عدمه فتلك شؤون سياسية نود هنا ركنها جانبا .
ترى هل اخطأ الوالدين في ارضاعنا حب الوطن واحترام اسمه وتثمين كل شبر فيه ؟ ألم يكن ممكنا اخفات صوته بدواخلنا كي تمر وطأة الآمه في نفوسنا مرور الكرام؟ هل كانوا هم السبب فعلا ام انها الفطرة ؟ ما الذنب الذي اقترفته لأني ولدت عراقية كآبنة لبلد تجذر صيته في اعماقنا كجذور تلك النخلة الباسقة التي مهما عايشت ظروفا واجواءا صعبة اعطت ثمارا اشهى ..؟ كيف لنا ان نستسيغ فكرة بان الوطن الواحد صاحب اعرق الحضارات البشرية سيتجزأ ليتشرذم ابنائه شاؤا ام أبوا وكل جزء منهم تحت مسمى يختلف عن الاخر.
في بغداد حيث ولادتي ونشأتي حتى بداية التسعينات عشت وفي مناطق مختلفة باختلاف مراحل العمر ومتطلبات الحياة .. عشنا اجواء هادئة وطبيعية .. اجواءا من المحبة والطيبة .. اجواء حق الجار على الجار .. وشلونكم آغاتي .. الخ من التعابير وصور التعايش التي لم نستغنى عنها يوما .. لا بل كانت تعمي العيون عن النظر لاي ديانة او طائفة ننتمي .. وليتنا بقينا عميانا.. عشنا في احياء ذات اغلبية شيعية واخرى سنية واخرى كانت تجمع كل الالوان والاطياف العراقية ولكن دون ان اعلم لاي طائفة ينتمي جاري ..
كل ما اتذكره ان جيراننا المسلمين كانوا يغلبوننا احيانا في قوة الايمان بالسيد المسيح عليه السلام وبكنيسة العذراء المتواجدة في الحي .. وحتى وقت متأخر ادركت انهم كانوا من المذهب الشيعي .. ولا اذكر ان سني سالني يوما عن ديانتي او ميزني على اساس الدين او الانتماء ..
سيقول احدهم ان النظام كان دكتاتوريا ولم يسمح بالتعددية القومية والدينية والطائفية .. حسنا .. وهل تعني ديمقراطية هذه الايام استحالة التعايش والحفاظ على كيان وطننا ، كما هو الحال في اعظم الدول الديمقراطية التي تحتضن المئات وربما الآف من القوميات والمذاهب والالوان ؟ .. طوال سنوات نشأتنا في بغداد قلما كان يمضي عام وخصوصا في الصيف الا ويأتينا ايعاز من الوالدين للاستعداد للسفر .. الى اين ؟ الى شمال الوطن يا أعزائي حيث الاصول والجذور وموطن الاباء والاجداد .. ولماذا غادرتموها مادامت عزيزة عليكم ؟ كنا دائما نتلقى نفس الجواب الذي نجيب به الان اولادنا .. انها الحروب والصراعات!! .. البهجة كانت دائما عنوان لوجوهنا بمجرد استنشاق عبير ونسمات المنطقة ولكن وللاسف لم يكن لتلك الفرحة ان تكتمل لان ارض قريتنا كانت طوال سنوات من المناطق المحرمة ولا يحق لنا الا ان نلقي عليها تحياتنا من بعيد ونمضي .. مع بداية التسعينات وتحرير المنطقة من النظام البائد جاء قرارنا بالعودة اليها عام 1994 بهدف الالتحاق بالمعارضة العراقية في حينها ..
لم يكن القرار سهلا بالطبع .. لاننا امضينا مراحل من العمر في بيئة معينة باتت جزء من حياتنا من الصعب الاستغناء عنه .. ولكن وبنفس الوقت حسمنا امرنا بالعودة لان المرحلة القادمة بحاجة الى جهود وتضحيات كبيرة لاثبات الذات الاكبر كأمة وشعب عريق .. فلما لا نكون جزءا بناءا فيها ونحن التواقون ليوم نلمح فيه الحرية وكل ما هو خير له، ولجميع ابناء الوطن الخيرين الذين عانوا من ويلات نظام لم يستثني منهم أحد. غادرنا بغداد لنعود الى مناطقنا حيث كان الحنين الى كل بقعة فيها جبالها .. وديانها .. مياهها .. وربوعها الخلابة ، ورغم عدم اتقاننا للغة المنطقة ولا معرفتنا العميقة باناسها وساكنيها الى ان شعور الارتياح والطمأنينة كان يملئنا.. كمن يملك دارين وخيار البقاء في اي منهما يعود له وحده، واليوم .. وبعد مرور اكثر من عقدين من العيش والتعايش مع اخوتنا في المنطقة من الاكراد وبقية مكوناتها يتكرر الحال معنا .. فهذه مرحلة اخرى في حياتنا لا يمكن الاستغناء عنها ..
وما يحز في النفوس ولا تتقبله مخيلتنا وقناعاتنا ان نكون امام خيارات عدة ليس فيها الافضل، على الاقل بالنسبة لنا كنموذج او مثال بسيط لانسان عراقي يعشق كل شبر في بلده .. ويثق بان كل شبر فيه يكفي لجميع ابنائه .. انسان تساؤلاته جمة ولا من مجيب لها .. انسان ضائع بين متاهات الكبار ولا من شقفة امل في المستقبل والمصير .. انسان لم يتصور يوما بان حدود بائسة سترسم لتعزله عن بيته الكبير وتركنه في زاوية ضيقة منه.
لم تكن نيتنا هنا سرد قصة حياة بقدر ما اردنا ان نجسد حالة يعيشها الملايين من العراقيين ذوي الاصوات غير المسموعة، ممن يملئهم الألم والحسرة على وطنهم الذي سينهش جسده التقسيم ليبدوا عليه الضعف والذل بدلا من ذلك الصيت الذي دوى الاف السنين على مسامع ومرأى العالم ليقول هنا ولدت العظمة .. وهنا مهد الحضارات والاديان .. وهنا كان للتاريخ شأنه..

التعليقات معطلة.