كردستان وتداعيات ما بعد الاستفتاء

1

عبد الحسين شعبان

أعلن مسعود البارزاني رئيس إقليم كردستان عن تنحيّه وعدم ترشيح نفسه وطلب من البرلمان توزيع صلاحياته على سلطات الإقليم. وكانت ولايته قد انتهت بعد تمديدها لمرتين لمدة عامين لكل منهما، وهي الولاية الثانية، حيث حكم كردستان منذ العام 2005 حين انتخب رئيساً في البرلمان، ثم فاز بانتخابات رئاسية مباشرة في العام 2009 وحصل على 69% من أصوات الناخبين لتولّي دورة ثانية، انتهت في العام 2013.

وكان من المقرّر إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في إقليم كردستان مطلع الشهر الجاري (نوفمبر/تشرين الثاني) بانتهاء رئاسة البارزاني، لكنها تأجّلت لثمانية أشهر بسبب عدم تقديم الأطراف السياسية لمرشحيها في ظل الأزمة الطاحنة سياسياً وعسكرياً ومالياً، تلك التي يعيشها الإقليم، ولاسيّما في صراعه مع الحكومة الإتحادية، فضلاً عن مشكلاته الداخلية بتصدّع الوحدة الوطنية الكردية.

وصادق البرلمان على قرار توزيع الصلاحيات بين الحكومة والبرلمان والسلطة القضائية بموافقة الغالبية من أعضائه، كما أعلن إلغاء ديوان رئاسة الإقليم، وسيكون من مهمات حكومة الإقليم التي يترأسها ابن شقيقه ادريس، نجيرفان البارزاني، مهمة المصالحة مع الحكومة العراقية وإدارة مفاوضات مع الدول المجاورة ومع أحزاب كردية كانت قد خالفت إجراء الاستفتاء أو تحفّظت عليه، إضافة إلى تبعات ما بعد استعادة كركوك من جانب القوات الاتحادية، وهي مهمات ثقيلة وتحمل عقداً بعضها معتّق، ناهيك عن تداخلاتها الإقليمية والدولية.

وكان مسعود البارزاني قد ألقى كلمة مؤثرة تنضح مرارة وخيبة أمل، إضافة إلى دروس بليغة، منها ما أسماه “الخيانة العظمى” التي بسببها انسحبت قوات البيشمركة من كركوك في إشارة إلى جناح في الاتحاد الوطني الكردستاني كان قد تفاوض مع قائد القدس افيراني قاسم سليماني على عدم مواجهته قوات البيشمركة، القوات الاتحادية في إطار صفقة سياسية، ومنها خذلانه من المجتمع الدولي، ولاسيّما من الولايات المتحدة، التي كانت قد أبدت تحفّظها على إجراء الاستفتاء، فضلاً عن توقيته، خصوصاً وإن المجابهة مع داعش لم تكن قد انتهت بعد، وهي لا تزال مستمرّة حتى الآن، وتعتبرها واشنطن الأولوية الأساسية في العراق، التي لا يتقدّم شيئاً عليها، ناهيك عن أنها تريد التعامل مع العراق ككل وليس جزءًا منه.

ويبدو إن قيادة الإقليم كانت تراهن على “الأمر الواقع”، حتى أن هوشيار الزيباري وزير خارجية العراق لفترة زادت على عقد ونيّف من الزمان، كان قد صرّح بأن ما بعد الاستفتاء سيكون شيئاً آخر، لا يشبه ما قبله، وإن عشرات الدول ستكون مؤيدة له إنْ لم تكن قد وافقت على الأمر الواقع، لكن مثل هذه التقديرات وربما بعض النصائح المباشرة أو غير المباشرة التي كانت تأتي من مستشارين محليين وأجانب بعضهم مسؤولين سابقين، كانت بعيدة كل البُعد عن الواقع، خصوصاً في ظلّ إصرار عراقي غير مسبوق، حيث توحّدت الشيعية السياسية الحاكمة مع السنيّة السياسية المشاركة في الحكم على موقف واحد.

يضاف إلى ذلك ردود فعل عربية عديدة داخلياً وعلى مستوى الإقليم، فضلاً عن ردّ فعل شديد من جانب إيران وتركيا وهما الدولتان اللتان تواجهان مشكلة كردية حادة إضافة إلى سوريا التي بدأت الورقة الكردية تتحرّك فيها على نحو مختلف منذ العام 2011، وخصوصاً الدور العسكري الذي تقوم به حالياً باسم ” قوات سوريا الديمقراطية” المدعومة أمريكياً، كما إن الدور الذي يقوم به حزب العمال الكردستاني PKK في كل من سوريا والعراق، أصبح مُقلقاً عراقياً وعربياً وبشكل خاص تركياً وإيرانياً.

لعلّ الوضع الذي وجد فيه نفسه مسعود البارزاني وقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني هو أقرب إلى العام 1975 وبعد اتفاقية 6 مارس (آذار) بين شاه إيران محمد رضا بهلوي وصدام حسين نائب الرئيس العراقي حينها، حيث لم يقف الحلفاء إلى جانب الزعيم التاريخي الملّا مصطفى البارزاني، وهو ما عبّر عنه بمرارة بُعيد انتهاء الحركة المسلحة واضطراره اللجوء إلى إيران بعد حرب استمرّت لعام كامل.

وكان البارازاني الكبير شديد الغضب وكثير العتب إزاء مواقف الولايات المتحدة التي تخلّت عن الحركة الكردية، إضافة إلى شاه إيران، وحاول كتابة رسائل تضجّ بالشكوى والألم إلى هنري كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة حينها، وفي ذلك أحد دروس الكرد الذين لم يبق من صديق لهم وقت الضيق سوى الجبال، حسب حكمة كردية قديمة يردّدها عدد من الزعماء الكرد، خصوصاً في المنعطفات التاريخية، الأمر الذي ينبغي وضعه في الحسبان دائماً، في ظل دكتاتورية الجغرافيا السياسية، تلك التي تحيط كردستان العراق من جميع جوانبه ولا سبيل لتغييرها وتحقيق الحلم الكردي، إلّا بإجراء تغييرات جوهرية في عموم المنطقة.

وخيبة أمل مسعود البارزاني أكثر شدّة من أبيه، لأن خسارة الأول المعركة كانت بسبب خذلان العامل الخارجي أساساً وتخلّيه عن دعمه الأمر الذي سبّب اختلالاً جوهرياً في ميزان القوى العسكري، في حين إن خيبة أمل الإبن نجمت من غياب الوحدة الوطنية، سواء بمواقف كتلة كوران (التغيير) أو الحركة الإسلامية أو أطراف من الاتحاد الوطني الكردستاني التي تسبّبت في انسحاب غير متفق عليه أو لم يتم التوافق بشأنه، كما يفصح قرار تنحية ورسالته التي وجهها إلى العالم بهذه المناسبة .

بعد إعلان مسعود البارزاني انسحابه من رئاسة الإقليم قال ” أنا مسعود البارزاني، أحد أعضاء البيشمركة وسأستمر في مساعدة شعبي في نضاله نحو الاستقلال” ، وعلى أثر ذلك اجتمع برلمان كردستان وقرر قبول الاستقالة وكان قد تردد عشيّة هذا القرار، تشكيل قيادة سياسية عليا، سيكون من مهماتها الإبقاء على “امتيازات” الرئيس البارزاني بصفته مرجعية عليا كانت قد تقرّرت باجتماع الأحزاب الكردستانية (المتوافقة معه)، وسيكون من مهماتها مقابلة الدبلوماسيين الأجانب وعدم اتخاذ قرارات تتعلّق بالقضايا الحساسة من جانب الحكومة دون موافقتها.

ولعل ذلك يعطيها حضوراً سياسياً أقرب إلى فكرة “المرشد الأعلى” أو القائد الفعلي أو ما سمّاه منتقدوه ” مجلس قيادة الثورة”، حيث سيبقى خارج دائرة العمل التنفيذي الحكومي اليومي والمسلكي، علماً بأن أحد أقطاب الاتحاد الوطني الكردستاني (نائب الأمين العام – كوسرت رسول) سيكون نائباً له في هذا الموقع الجديد، حتى وأن كان الأمر مؤقتاً، وذلك كي لا يحصل ” فراغ دستوري” كما ورد في رسالته الموجهة للبرلمان.

لقد طوى مسعود البارزاني يوم الأحد 29 أكتوبر(تشرين الأول) 2017 صفحة من صفحات تاريخ كردستان الأكثر إثارة وحساسية، لاسيّما على صعيد تمتّع كردستان بالفيدرالية واعتبار الكرد شريكاً أساسياً في صياغة الدستور وفي إشغال مناصب عليا في الدولة العراقية بينها رئاسة الجمهورية لثلاث دورات ، وكان يأمل أن يصل بالإقليم إلى محطّة جديدة يعلن فيها عن استقلاله بعد إجراء الاستفتاء، ولكن التوافقات الإقليمية والدولية، فضلاً عن الوضع العراقي كان عائقاً شديداً أمام ذلك الطموح، الذي بسببه تراجعت بعض مكاسب الإقليم وهو ما تحمّله بعض الأطراف الكردية مسؤوليته، إضافة إلى تصدّع العلاقات العربية- الكردية .

وبغضّ النظر عن بعض الاجتهادات وفيما بعد الاصطفافات والأخطاء، فقد لعب مسعود البارزاني دوراً كبيراً في قيادة الحركة الكردية، منذ ثورة سبتمبر/ أيلول العام 1961 بمرافقة والده، وفيما بعد أصبح رئيساً لجهاز الاستخبارات ثم رئيساً للحزب الذي تأسس العام 1946، ودخل بحروب مع غريمه جلال الطالباني، وأكبرها الحرب التي استمرت أربع سنوات 1994-1998، كما دخل في مفاوضات عديدة مع صدام حسين الذي أعانه ضد جلال الطالباني الذي كان مدعوماً من إيران في العام 1996، حيث دخل الجيش العراقي إلى إربيل، وكان لاعباً أساسياً في ساحة المعارضة العراقية، وجمع “شملها” في صلاح الدين العام 1992 ليصبح واحداً من ثلاث قياديين أساسيين فيها، هم إضافة إليه: السيد محمد بحر العلوم واللواء حسن النقيب، كما كان عضواً فاعلاً في مجلس الحكم الانتقالي الذي شكّله بول بريمر بعد الاحتلال وفقاً للمحاصصة الطائفية – الإثنية .

واليوم وبعد شهر ونيّف على قول الكرد ” نعم” فإن المرارة أخذت تكبر بعد سلسلة الإجراءات والتداعيات التي اضطرّت الكرد للتراجع، أهمها: إعادة كركوك إلى سلطة الدولة الإتحادية وهي التي تسمى لدى القيادات الكردية ” قدس الأقداس”، إضافة إلى عدد من المناطق المتنازع عليها، وكان مسعود البارزاني قد تحدّث عن “حدود الدم” التي قال عنها إنها ترسم الحدود الكردستانية.

كما اضطرّ الإقليم إلى إعادة بعض حقول النفط والمنافذ الحدودية، كما إن الانقسام الكردي الذي حصل بشأن الاستفتاء وبعده، ستكون تأثيراته كبيرة جداً على مستقبل الإقليم، إذْ أنه منذ احتلال العراق العام 2003 ولحد الإعلان عن الرغبة في إجراء الاستفتاء، كان الموقف الكردي موحداً، لذلك حصل الكرد على مكتسبات كبيرة، وكان البعض ينظر إليهم بأنهم يتمدّدون في كركوك على حساب التركمان والعرب، وكذلك في المناطق المتنازع عليها، بل إنهم يحكمون جزءًا من بغداد، إضافة إلى إقليم كردستان الذي لا يشاركهم فيه أحد.

فما الذي سيحصل وهل سيبقى مسعود البارزاني رئيساً للحزب الديمقراطي الكردستاني؟ وكيف سيتم التعامل مع حكومة الإقليم برئاسة نجيرفان البارزاني ؟ وماذا عن نجله مسرور البارزاني رئيس مجلس الأمن القومي في الإقليم والمسؤول عن الأمن منذ العام 2012؟ وكيف ستكون نتائج الانتخابات الكردية وكذلك نتائج الانتخابات العراقية وكلاهما سيجريان في العام المقبل 2018؟

كل ذلك يثير أسئلة كبرى، لكن الجواب عليها يحتاج إلى انتظار كي تنجلي هذه الموجة العاصفة وتعود الأمور إلى مجاريها، ولاسيّما مع بغداد التي تتعامل بثقة أكبر مع الإقليم خصوصاً في إطار الصلاحيات الممنوحة للدولة الإتحادية دستورياً، وذلك بفعل تدخّل أمريكي للجلوس إلى طاولة مفاوضات، ابتدأت بقياديين عسكريين من الجيش العراقي والبيشمركة لتنتهي لاحقاً في إطار القيادات السياسية، علماً بأن رئيس الوزراء حيدر العبادي كان قد أعلن عن قبوله للحوار شريطة أن يعلن الإقليم إلغاء الاستفتاء ونتائجه.

التعليقات معطلة.