شهد الاقتصاد المصري تحسناً خلال الأسابيع الماضية، تزامناً مع حلول شهر رمضان، ما انعكس انتعاشاً في أعمال الخير وعودة “موائد الرحمن” للظهور في الشوارع بكثافة أكبر مقارنة بالعامين الماضيين. ويأتي هذا بعد أزمة اقتصادية عصيبة مرت بها مصر منذ 2022، كان أبرز معالمها نقص توافر الدولار الأميركي، وجموح السوق الموازية للعملات الأجنبية، ما أدى لارتفاع أسعار السلع والخدمات ارتفاعاً غير مسبوق، وضاعف الأعباء المعيشية على ملايين المصريين، وتراجعت الأعمال الخيرية في ذلك الوقت بقدر لافت.
وتشكل أعمال الخير التي يقوم بها المجتمع الأهلي وفاعلو الخير في مصر عاملاً مساعداً بالنسبة للكثير من الفقراء الذين تزايدت عليهم الأعباء المعيشية مع الارتفاع الجنوني للأسعار. وبحسب دراسة أجرتها مستشارة الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء هبة الليثي، فإن تقديرات معدلات الفقر قد ارتفعت خلال 2022/2023 لنحو 35.7 بالمئة، وهذا يعني أن أكثر من 35 مليون شخص يرزحون تحت خط الفقر. وفي الأسابيع الأخيرة، ورغم التحسن الاقتصادي الملحوظ، إلا أن تراجع أسعار السلع لم يتناسب مع انخفاض سعر صرف الدولار، ما جعل الكثير من المواطنين لا يشعرون بثمار التحسن السريع في اقتصاد بلدهم الذي يتوقع خبراء اقتصاديون أن تدخله مليارات الدولارات خلال الأشهر المقبلة.
وأعلن رئيس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي، مساء الاثنين، عن اتفاق الحكومة مع المصنعين والتجار على بدء خفض أسعار السلع بنحو 15 و20 بالمئة خلال 48 ساعة، ليصل التخفيض إلى 30 بالمئة بعد عيد الفطر، وقال إن “التجار يؤكدون تنفيذهم توجيهات الرئيس (المصري عبد الفتاح السيسي) بخفض الأسعار ويعلنون أن الزيت، والفول، والعدس، والأرز، أسعارها قد انخفضت”.
وكانت الانتعاشة الاقتصادية الحالية قد بدأت مع الإعلان عن صفقة مصرية – إماراتية لتطوير منطقة “رأس الحكمة” الواقعة بالساحل الشمالي لمصر، وضخ استثمارات مباشرة تبلغ نحو 35 مليار دولار، وكذلك بعد قرار البنك المركزي المصري بتعويم سعر صرف الجنيه المصري، ما ساعد على تدفق الدولار إلى البنوك وعودة نسبة كبيرة من تحويلات المصريين بالخارج إلى السوق الرسمية، ومن ثم تحكم القطاع المصرفي في تحديد سعر العملة الأميركية، وتحييد السوق السوداء، ما قاد لانخفاض سعر الدولار من نحو 73 جنيهاً في شهر شباط (فبراير) الماضي، إلى ما يناهز 47.75 جنيهاً وقت كتابة هذه السطور.
“بركة الخير”
وبرغم أن كثيراً ممن تحدث معهم “النهار العربي” أكدوا تأثر أعمال الخير بنقص التبرعات وارتفاع أسعار السلع خلال السنوات الثلاث الماضية، إلا أن فتحي المزين، رئيس مجلس أمناء “مؤسسة حلقة وصل”، يؤكد أن مؤسسته الخيرية واصلت عملها على النحو المعتاد في شهر رمضان.
ويقول المزين لـ”النهار العربي” إن “كرتونة رمضان لم تتأثر بارتفاع الأسعار، وقدمت بالمكونات نفسها، وإن كانت تكلفتها أكبر”، لافتاً إلى أنه يرى أن “الخير في مصر له بركة عظيمة، يزداد رغم كل ضيق، وعلى مدار الخمس سنوات الماضية كل عام يقول الجميع إن رمضان سيكون صعباً للغاية، ومع هذا تكون الزيادة أكثر وأكثر في الخيرات”.
تنظم المؤسسة مائدة إفطار يومياً لنحو 200 فرد
وعن نشاط مؤسسته خلال شهر الصيام لدى المسلمين يقول: “نشاط المؤسسة يتركز في رمضان بالتحديد، إذ نقوم بتنظيم مائدة الرحمن لنحو 200 شخص يومياً، بالإضافة إلى توزيع ألف شنطة بداية الشهر الكريم، بجانب الكفالات العلاجية، وروشتة الخير، وتوزيع زكاة المال على ألف أسرة، وبعض الصدقات الجارية، ومسجد تحت البناء ومجمع خيري في سقارة”.
ويشير رئيس مجلس أمناء المؤسسة الخيرية إلى أن “المكونات الرئيسية لكترونة رمضان هي: زيت، وسمن، ومعكرونة، وأرز، وسكر، وشعيرية، وصلصة، وتمر”، مؤكداً أن “تكلفة الكرتونة تضاعفت، لكن مكوناتها بقيت كما هي”.
وبالنسبة لنشاط فعل الخير عموماً في مصر، يقول المزين: “تعاني الكثير من المؤسسات ندرة التبرعات، إذ إن هناك شريحة كانت متبرعة أصبحت غير قادرة على التبرع، ولكن كما قلت أكثر من مرة، الخير في مصر في زيادة دائمة، رغم ارتفاع الأسعار، وقد يكون هذا نتيجة زيادة الوعي الفردي بقيمة الخير في حياتنا، أو قد يكون نتيجة بركة الخير في حد ذاته”.
تنوع أنشطة الخير التي تقوم بها المؤسسة خلال شهر رمضان
الخير ينتعش
قبل سنوات قليلة كانت “موائد الرحمن” منتشرة على نطاق واسع في شوارع مصر، وكان الكثير من رجال الأعمال والفنانين والشخصيات العامة والأثرياء يقيمون تلك الموائد طوال شهر رمضان، ومع تصاعد الأزمة الاقتصادية، وتراجع عدد الموائد، ثمة اتجاه يميل إليه بعض فاعلي الخير، وهو توزيع “الشنط الرمضانية” أو “كراتين رمضان”، لأنها عملية أكثر، كما أن بعض الأسر تشعر بالحرج من الجلوس في موائد بأماكن مفتوحة.
ومن جانبها، قالت ندى عبد الله، منسقة مبادرة “مع بعض” في حديثها لـ”النهار العربي”، إن “توزيع السلع الرمضانية مستمر، لقد قمنا بتوزيع عشرات الشنط في عدد من مناطق محافظة الجيزة، وسنقوم بتوزيع مجموعة أخرى قريباً”.
وتقوم عبد الله بصحبة مسؤولي المبادرة بتوزيع السلع الغذائية لعدد من الأسر، وتوصيلها إلى منازلهم، وبالرغم من التقاط صور ومقاطع فيديو لعملية التوزيع، تقول “إننا حريصون على كرامة أهالينا الذين نقدم لهم هذه الخدمة، لذا لا نظهر أحداً منهم خلال التصوير، ولو ظهر وجه أحدهم مصادفة نضع عليه “إيموجي” وردة أو لوجه باسم”.
وتضيف أن “الهدف من عملية التصوير هو إيضاح أن هناك عملية توزيع تتم، وهذا يشجع المتبرعين للمساهمة معنا في توفير السلع الغذائية الخام لأهالينا الذين يفضلون أن يقوموا بعملية إعداد الطعام في منزلهم”.
وجبات جاهزة ومتكاملة
يقول صادق، وهو اسم مستعار اختاره أحد رواد “موائد الرحمن” خلال حديثه لـ”النهار العربي”: “أنتظر شهر رمضان كل عام لأنه شهر الخير، وهو الشهر الوحيد الذي أستطيع خلاله الحصول على وجبة طعام جاهزة، فيها لحوم وفاكهة وأرز، إنها وجبة طعام مغذية ومتكاملة”.
ويضيف الرجل الذي بلغ العقد السابع من عمره ويعيش بمفرده: “أنا أعمل في بعض الأوقات بائعاً متجولاً، وأحياناً لا أعمل، رزقي غير منتظم، وحتى في أفضل الأيام لا أجني ما يكفيني من المال، ومن ثم أتضور جوعاً لأنني لا أحب التسول، لكن في شهر رمضان الأمر مختلف، فتلك الموائد مفتوحة للجميع، وقد بدأت تتوافر أكثر من العامين الماضيين، ومن ثم باتت فرصي أفضل في الحصول على الطعام، فإذا اكتملت إحداها يمكنني البحث عن مائدة أخرى”.
ينتظر الكثير من الفقراء موائد الرحمن لتقديمها وجبات غذائية جاهزة ومتكاملة
وبرغم برامج الدعم المتنوعة التي تقدمها الحكومة المصرية للفقراء من مواطنيها، مثل برنامج “تكافل وكرامة”، وكذلك السلع المخفضة الأسعار التي تبيعها في منافذها وعرباتها المنتشرة، إلا أن العمل الخيري الأهلي يظل فاعلاً وضرورياً جداً، نظراً لتزايد أعداد الفقراء بسبب الأزمة الاقتصادية التي مرت بها البلاد، وإن كانت آمال البعض تتزايد بعد التحسن الأخير الذي شهده الاقتصاد المصري، وتجددت الطموحات في أن تتراجع الضغوط المعيشية، وتنخفض الأسعار، ويخرج المزيد من المواطنين من تحت خط الفقر.