مقالات

إعادة النظر في عودة تنظيم «الدولة الإسلامية» بين العامَين 2011 و 2014: دروسٌ للمستقبل

هارون ي. زيلين

عند إخراج تنظيم «الدولة الإسلامية» من الموصل والرقة، أشار عدد كبير من المحلّلين أنّ ذلك لن يمثّل هزيمة كلّية للتنظيم، وإنما العودة إلى مستوى مختلف من التمرّد. ومثل هذه التصريحات تشير ضمناً أيضاً إلى أنّ تنظيم «الدولة الإسلامية» قد يستغلّ الانشقاقات والفراغات المستقبلية في العراق وسوريا كما فعل سابقاً بين العامَين 2009 و 2012، أي في الفترة الممتدة بين هزيمته التكتيكية كتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق» وإعادة بروزه في نيسان/أبريل 2013. فما الذي أدّى إلى معاودة الظهور تلك، وكيف تُقارن البيئة الحالية بـ”الهزيمة” الأولى للجماعة؟ قد تُضيئ الإجابة على هذه الأسئلة مسار أي عودة مستقبلية لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» والنقاش ذو الصلة حول مستقبل القوّات الأمريكية في العراق وسوريا.

كيف بقي التنظيم وتوسّع؟

هناك خمسة عوامل أساسية ساهمت في معاودة ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية» عام 2013، وهي: انسحاب الولايات المتحدة من العراق في كانون الأوّل/ديسمبر 2011، والضعف المتلازم لقوات الأمن العراقية، ومشاركة التنظيم المتواصلة في أعمال إجرامية محلية وقدرته على استغلال مظالم العراقيين السنّة ضدّ الحكومة المركزية ذات الغالبية الشيعية، وعمليات الهروب الجماعية من السجون من قِبَل رفاق تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق»، واندلاع الحرب في سوريا، الأمر الذي حثّ على تعبئة غير مسبوقة للمقاتلين الأجانب.

الانسحاب الأمريكي وضعف الأمن العراقي. ليس من المستغرب أن تبرز فرص جديدة أمام تنظيم «الدولة الإسلامية» نظراً للتفاوت الهائل بين القدرات الأمنية العراقية والأمريكية. فلو كان الجيش وجهاز المخابرات العراقيان قويّيَن بما فيه الكفاية، لما كان رحيل الولايات المتحدة ليؤثّر بهذا القدر. وعوضاً عن ذلك، منح الانسحاب عناصر تنظيم «الدولة الإسلامية» حرية أكبر في الحركة والعمليات في المناطق التي سبق لهم أن أسسوا فيها وجوداً قوياً أو شبكات دعم واسعة، حرصت القوّات الأمريكية على قمعها عند ظهور حركة «الصحوة» السنّية.

الأعمال الإجرامية. منحَ الفراغ ما بعد عام 2011 المزيد من الفرص لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» للاستغلال أو إنشاء شبكات إجرامية تعمل بالإتجار بالبشر، والاختطاف، والابتزاز، وسرقة المصارف، والتكرير البدائي للنفط، والإتجار بالآثار. كما قام التنظيم باستثمارات خفيّة في شركات محلية مشروعة لمراكمة أصوله المالية.

مظالم السنّة. في أعقاب الانسحاب الأمريكي وحركة «الصحوة»، وعد رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بدمج النظام السياسي والأجهزة الأمنية مع أولئك السنة الذين ساعدوا على محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» في أقسام من محافظة الأنبار بين العامَين 2006 و 2009. غير أنّه على مرور الوقت، أصبح مرتاباً أكثر فأكثر من إمكانية عودة الأقليّة السنّية إلى السلطة وتنصيبهم طاغية آخر على غرار صدّام حسين. وقد دفعت هذه المخاوف الحكومة إلى تهميش الأطراف الفاعلة السنية، مما أدى إلى بروز حركة احتجاجية في كانون الأوّل/ديسمبر 2012. وعندما قامت الحكومة بتدمير مخيّم تظاهري في الرمادي بعد عام، ساهمت في إعادة إشعال حركة تمرّد أكبر كان تنظيم «الدولة الإسلامية» في الموقع المناسب لاستغلالها.

عمليات الهروب من السجون. منذ عام 2011، سمحت عمليات هروب بارزة من سجني “أبو غريب” و”التاجي” وغيرهما لعاملين وقادة رئيسيين في تنظيم «الدولة الإسلامية»، كانوا قد اعتقلوا خلال سنوات الزيادة في عدد القوات/و«الصحوة»، بالعودة إلى التنظيم. وكان العديد من هؤلاء الهاربين مقاتلين مؤهّلين، ومضرّسين خدموا كمضاعفين للقوّة ومجنِّدين فاعلين.

الجهاد السوري. لعلّ الحرب السورية منحت تنظيم «الدولة الإسلامية»، أكثر من أي عامل آخر، ولوجاً لمجنّدين وأسلحة وتمويل جديد. وشمل ذلك تدفق أعداد كبيرة من المقاتلين الأجانب المستعدّين لمساعدة التنظيم على الفوز بالمعارك وإدارة المناطق الواقعة تحت سيطرته. وعلى الرغم من أنّ عوامل كثيرة قد حرّكت هذه التعبئة، فإن موقع تركيا الاستراتيجي في المنطقة وحدودها المفتوحة مع سوريا ربما شكّلا العاملَين المساعدَين الأكثر أهميّة، فقد استمر تدفّق المقاتلين عبر هذه الحدود دون عوائق حتّى وقت قريب من ربيع عام 2015 عندما بدأت أنقرة في تناول القضية بجدية أكبر.

أوجه التشابه والاختلاف في الوقت الحالي

لا يزال تنظيم «الدولة الإسلامية» بشكله الحالي، يستغلّ المنظمات الإجرامية ومظالم السنّة في العراق والحرب السورية، لکن ھناك عوامل أخرى قد برزت ومن الأرجح أن تقلّص من فرصه بالعودة بشكل منتصر كما فعل بين العامَين 2013 و 2014. وإذا ومتى استعاد تنظيم «الدولة الإسلامية» الأراضي، ستكون هذه على الأرجح شبيهةً بأرخبيل من المعاقل أكثر من شُبهها لمساحات واسعة من الأراضي التي سيطر التنظيم عليها سابقاً بسرعة كبيرة.

ومن بين الأسباب الكامنة وراء هذا التقييد استبعاد أن تشهد المنطقة تكراراً لتعبئة شاملة للمقاتلين الأجانب كما حصل بين العامَين 2012 و 2015. وعلى الرغم من أنّ الجهاديين سيستمرّون في محاولتهم التسلّل إلى العراق وسوريا، إلّا أنّ أعدادهم ستكون قليلة وليست هائلة نظراً للأنظمة القانونية الجديدة التي طبّقتها الحكومات المختلفة لمحاربة مثل هذا التجنيد، والإجراءات الصارمة المتواصلة التي تتّبعها تركيا ضد حركة المقاتلين الأجانب على أراضيها. وبالتالي، سيتمتّع تنظيم «الدولة الإسلامية» بقوة بشرية محتملة أقلّ حجماً بكثير للمساعدة في إعادة بناء هيكل حوكمته أو عملها كمزودة الذخيرة لمدافعه.

بالإضافة إلى ذلك، إنّ «قوات الحشد الشعبي» في العراق ومجموعة الميليشيات الشيعية المحلية والأجنبية في سوريا، لا سيما تلك المصطفة مع إيران، لن تسمح بجهود شاملة لإعادة بناء تنظيم «الدولة الإسلامية». ومنذ تحرير الموصل، عمدت بعض وحدات ميليشيا «قوات الحشد الشعبي» إلى التعويض على هذا الصعيد، ليس من خلال قمع أي نشاط مرتبط بـ تنظيم «الدولة الإسلامية» فحسب، بل أيضاً من خلال اتخاذ إجراءات ضدّ المجتمعات السنّية التي ليس لها علاقة بها. ومن المفارقات أن مثل هذه الأعمال من المرجح أن تؤسس قاعدة تجنيد مستقبلية لـ تنظيم «الدولة الإسلامية»، لا سيّما أنّه لم يبق للمجتمع السنّي سوى القليل من بدائل القيادة المحلّية بعد نصف عقد من حملات تنظيم «الدولة الإسلامية» ضدّ شخصيّات «الصحوة» السابقة وغيرها من العناصر السياسية والمتمردة السنية. ومع ذلك، فإن النفوذ الإيراني المتزايد والانضباط الأكبر في صفوف «قوات الحشد الشعبي» يعني أنّ أي بروز جديد لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» قد يتضمّن جيوباً أصغر بكثير من الأراضي، ويستدعي ردّاً عسكرياً سريعاً، مما يجعل من الصعب تحقيق أي مكاسب أو توسيعها. وأحد البدائل المحتملة هو إعادة تأسيس شبكة تنظيم «القاعدة في العراق»، ولكن في حين تمّ تناقل هذه الفكرة في الأوساط الجهادية منذ بضع سنوات، إلا أنها لم تأتِ بثمارها بعد.

وأخيراً، فإن الأرض المجاورة في سوريا ليست خصبة لسيطرة الجهاديين كما كانت في السابق. إذ لا يزال نظام الأسد و«قوّات سوريا الديمقراطية» التي يقودها الأكراد تستولي على الأراضي، ولن تقوم الجماعات الإسلامية السنّية التي أفسحت المجال لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» بين نيسان/أبريل 2013 وكانون الثاني/يناير 2014 (من بينها «جبهة النصرة»، التي كانت مرتبطة بـ تنظيم «القاعدة» في ذلك الوقت) بتكرار ذلك. ففي الواقع، كان ردّ الفعل السنّي ضدّ تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا أكثر حزماً مما كان عليه في العراق بعد حركة «الصحوة». وباختصار، سيواجه تنظيم «الدولة الإسلامية» صعوبة أكبر بكثير في تسخير الأطراف الفاعلة السورية السنية لمصلحته اليوم أكثر من قبل عندما احتلّ الرقة وأجزاء أخرى من البلاد عام 2014.

المرحلة القادمة

نظراً إلى هذه العوامل، من غير المرجح أن يتكرّر السيناريو الذي حصل بين كانون الأوّل/ديسمبر 2011 وحزيران/تمّوز 2014، على الأقل ليس بنفس النطاق أو الوتيرة. وعلى الرغم من أنّ بعض الظروف والمشاكل الهيكلية الكامنة التي أدت إلى إعادة بروز التنظيم لا تزال قائمةً، إلّا أنّه يجب الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات الأساسية أيضاً. وبطبيعة الحال، سيكون من الغباء اعتبار تنظيم «الدولة الإسلامية» خارج المعادلة، وذلك لأنّ الجماعة هي أقوى اليوم مما كانت عليه عقب “هزيمتها” الأولى في عام 2009. ومع ذلك، فإن القمع الدولي للمحاربين الأجانب، واليقظة الأكبر بين الأعداء المحلّيين لـ تنظيم «الدولة الإسلامية»، والبيئة المتغيرة في العراق وسوريا، تشير كلها إلى أنّ الجماعة قد لا تكون قادرة على فرض نفسها بالامتداد والسرعة نفسهما كما فعلت في عام 2014.

وبالتالي، يتعيّن على الولايات المتحدة وحلفائها التركيز على الفهم الكلّي لهذا السياق المتغيّر تماماً، وليس على إعادة خوض المعركة السابقة. ويُعتبر تعزيز قوّات الأمن العراقية خطوة أولى مفيدة بشكل خاص لتجنب تكرار الأخطاء السابقة والحدّ من الدور الذي تؤدّيه الميليشيات المدعومة من إيران في مستقبل العراق. ومن شأن هذه المقاربة أن تُخفف من العبء على القوّات الأمريكية، مما سيسمح لها بالتالي بالتركيز أكثر على كيفية التأثير على الأحداث على الأرض في سوريا على الرغم من غياب علاقات أمريكية مع نظام الأسد. وعلى المدى الأطول، لا يوجد علاج سريع لتهديد تنظيم «الدولة الإسلامية» في أي من البلدَين. ومع ذلك، على الولايات المتحدة العمل مع الشركاء المحلّيين والدوليين على المهمّة الأساسية القاضية بحلّ المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والدينية الكامنة التي يستغلّها تنظيم «الدولة الإسلامية» والجماعات الجهادية الأخرى.