مقالات

إعلان ترامب في ميزان الربح والخسارة

فيصل العساف
 
بعد أربعة أيام من تنصيبه، كتبت مقالة استشرافية لمستقبل منطقتنا مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي كنت في المناسبة راهنت على تربُّعه عرش السياسة الأميركية قبل عام من توليه، في مخالفة صريحة لغالبية التوقعات في ذلك التوقيت. في تلك المقالة بعنوان: «سرّي: حوار بين ترامب وأوباما في كاديلاك الرئاسة»، راهنت مرة أخرى على أنه سيوافق على نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وفعل!
بصراحة، لم أكن أتوقع أن يتم ذلك بهذه السرعة، إلا أن ترامب أصر على أن يكون ذلك الشخص الذي لا يمكن التنبؤ بما يفعل. السؤال المطروح الآن، هل كانت الأوضاع الداخلية المحيطة به أصابته بالدوار ودفعته دفعاً إلى شراء سكوت بعض القوى الضاغطة بهذا الإعلان؟ ربما يكون هذا التحليل سبباً وجيهاً لهذه «اللخبطة» في الحسابات، خصوصاً بعد أن نشر بحسابه في موقع التواصل «تويتر» فيديو لرؤساء أميركيين سابقين، وعدوا بنقل السفارة، لكنهم أنهوا مددهم الرئاسية ولم يفعلوا، في ما يمكن تفسيره بأنه إشارة إلى الأميركيين بأنه الرئيس الوحيد الذي إذا قال فعل، لكن في المقابل قد تكون «لخبطة» الأوراق هذه مقصودة بعينها، انطلاقاً من أن السياسة الأميركية كانت قررت اعتماد الفوضى الخلاقة سبيلاً لحلحلة النزاعات الشرق أوسطية المزمنة، منذ عهد الجمهوري، أيضاً، جورج بوش الابن، وأن ترامب اليوم ليس سوى «جنايني» يقطف ثمار العمل المنظم منذ أحداث 11 من أيلول (سبتمبر)، الذي أوصل المنطقة إلى هذه الحال من التشرذم، بإسهام فاعل من الثورات العربية، التي أثخنت في الجهد العربي المشترك تضعيفاً وتهميشاً، وأوصلته إلى هذا الوضع المتردي، الذي يعتبر الفرصة الملائمة لمثل هذا الإعلان المدوي.
السيناريوات السابقة يمكن قبولها، لكننا اليوم إزاء منعطف مهم يجب التعامل معه بجدية بالغة، فالأحداث تبدو متسارعة إلى الحد الذي لا يقبل أنصاف الحلول، فمنطقتنا العربية تقف برمتها على شفير هوة سحيقة، بما فيها دول الخليج، وتحديداً السعودية والإمارات، التي تقع في مرمى سهام عدة، تحاول جاهدة النيل منها، سواء من طريق بث الإشاعات المغرضة، التي تحاول جاهدة تشتيت انتباه الدولتين المهمتين على الخريطة الإقليمية، أم بالعمل الدؤوب للعدو الإيراني، الذي يبدو أن الظروف تسير في مصلحته، ما لم يتم تدارك الأوضاع بطريقة أكثر براغماتية، تضع نصب عينيها الدرس العراقي، الذي أعقب سقوط نظام صدام حسين، عندما رفضت المجاميع السنّية العريضة خوض الانتخابات في ظل الاحتلال الأميركي، رافعة شعار المقاومة، الأمر الذي استغلته القوى السياسية الشيعية، التي شاركت بكثافة، وأخذت الجمل بما حمل، تاركين للسنة أصابع الندم يتسلون في عضها، كلما تذكروا الخطأ السياسي التاريخي.
إسرائيل ليست الرابح الأكبر من إعلان ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لها، فالقدس محتلة منذ ما يقارب 50 عاماً، في المقابل يمكن اعتبار إيران وحلفاءها، بمن فيهم الجماعات الإسلامية السنية الراديكالية، هم أكثر الرابحين، فالإعلان مثّل لهم صدمة جددت الدماء في عروقهم، بعد أن كانوا قاب قوسين، أو أدنى، من بلوغ نهاياتهم، هذه هي الحقيقة الدامغة، التي ينبغي مواجهتها بشجاعة.
هل الوضع الحالي يشي بمعاقبة الدول السنية، التي لم ترتبط بعلاقات ديبلوماسية مع إسرائيل، الابن المدلل لأميركا؟ هذا الاحتمال لا يمكن إغفاله بالنظر إلى التماهي الأميركي مع النشاط الإيراني في المنطقة، والواضح أنه يجري تخدير العرب المناهضين لأحلام إيران، بزعامة السعودية والإمارات، بتصريحات مجردة، تذر الرماد في العيون فقط، فيما إيران لا تزال تقضم الكعكة العربية من كل الاتجاهات، بلا حسيب، أو رقيب، وتتنازل بلا خجل عن مزاعم رمي إسرائيل في البحر، إذ أعلن «سيد» المقاومة نصر الله، ذراعها العسكرية العربية، عن فتح باب الجهاد «الذكي» من خلال الشجب والتنديد بالتليفونات!
السعودية، التي أحرق الفلسطينيون علمها في باحة الحرم القدسي، ونالوا منها بأقذع الأوصاف، على رغم ما قدمته وما تزال تبذله في سبيل الدفاع عن الحق الفلسطيني، مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بإلقائهم خلف ظهرها، من خلال الانفتاح على الفرص المتاحة، التي تحقق استقرارها، بعد أن ثبت بالدليل القاطع أن مواجهة إرادة الدول العظمى لا يمكن أن تتحقق، في محيط تشكل الأحقاد والنوايا المبطنة واحداً من أبرز روافد العمل السياسي فيه.