مقالات

إنجلترا: رسالتان بليغتان من الانتخابات المحلية

إياد أبو شقرا

إياد أبو شقرا

صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.

الهزائم بالجملة التي مُني بها حزبُ المحافظين البريطاني الحاكم خلال اليومين الأخيرين في انتخابات إنجلترا المحلية كانت متوقّعةً، على الرغم من مُكابرة الحكومة وقيادة الحزب.

إذ كانت كل استطلاعات الرأي خلال الأشهر الماضي، بلا استثناء، تتوقّع خسائر كبيرة، إلا أنَّ الأمر المُختلَف عليه في أوساط المحللين هو ما إذا كانت هذه الخسائر ستأتي «كارثية» إلى درجة تشديد الضغط على رئيس الوزراء ريشي سوناك كي يستقيل قبل الانتحابات العامة… أم «مقبولة»، بحيث تتيح للحزب التقاط أنفاسِه واختيار زعيمه الرابع خلال 4 سنوات من دون ذعر!

ما حملته صناديق الاقتراع، قبيل إعلان النتائج النهائية بعد ظهر أمس، كان أقرب إلى النتائج «الكارثية». فقد خسر المحافظون السيطرة على 10 مجالس محلية ليستقر رصيدهم عند 6 مجالس فقط، كما خسر الحزب 468 مقعداً ليتقلَّص تمثيله المحلي إلى 508 فقط. ومن ناحية ثانية، فشل رهان المحافظين على إسقاط صديق خان، عُمدة لندن العمالي، الذي كان يواجه نقمة كثيرين من مالكي السيارات وسائقيها لتوسيعه منطقة «الحظر البيئي» الخاصة بمستوى منفوثات العوادم. وبالفعل… كان القلق على فرصه يساور العديد من المناصرين العماليين.

وفي المقابل، انتزع حزب العمال السيطرة على 8 مجالس (على الأقل) ليرفع رصيده من المجالس التي يسيطر عليها إلى 49 مجلساً، وعلى صعيد المقاعد رفع العمال حصتَهم إلى 1140 مقعداً بعد كسبهم نحو 185 مقعداً جديداً، بيد أن الأرقام الواردة أعلاه لا تعطي الصورة كاملة، بل تنقصها تفاصيل مهمة، أبرزها:

– أنَّ ما خسره المحافظون من المجالس ومقاعدها لم يذهب كله للعمال، بل كان حزب «الديمقراطيين الأحرار» من كبار المستفيدين، فقد انتزع هذا الحزب الوسطي السيطرة على مجلسين محليين جديدين ليرفع رصيده من المجالس إلى 12 متجاوزاً بذلك رصيد المحافظين. وعلى صعيد المقاعد، حاز 505 مقاعد بزيادة 102، متجاوزاً كذلك رصيد المحافظين. وأيضاً فاز حزب «الخُضر» البيئي (المحسوب على يسار العمال) بـ69 مقعداً جديداً رفع معها رصيده الإجمالي من المقاعد إلى 179، مع أنه أخفق في السيطرة على أي مجلس.

– استطاع المرشحون المستقلون من مختلف المشارب ومختلف المناطق تحقيق اختراقات والتأثير بنسب متفاوتة على النتائج.

– حزب «الإصلاح» (ريفورم بارتي) (حركة «بريكست» سابقاً) المناوئ لأوروبا ألحق – وفق عدة تقارير – ألحق أذى حقيقياً بحظوظ المحافظين في أوساط الناخبين اليمينيين، خصوصاً في الأرياف والضواحي الميسورة، لكن مكاسبه على المستوى التمثيلي اقتصرت على كسبه مقعدين فقط.

– نسبة الأصوات التي حصل عليها حزب العمال، على الرغم من تصدّره النتائج، ظلت فقط في حدود الـ35 في المائة. وهذا الرقم لا يشجّع على توقّع اكتساحه الانتخابات العامة المقبلة، كما فعل زعيمه الأسبق توني بلير عام 1997 بانتصاره الكبير الذي أنهى «الحقبة الثاتشرية». ذلك أنَّ «الاكتساح» يحتاج إلى تجاوز عتبة الـ40 في المائة من الأصوات، وتوزّع الأصوات الباقية بنسب معقولة على الأحزاب المتنافسة.

بناءً على ما سبق، يمكن القول إنَّ الرسالة الأولى المُستخلصة من نتائج هذه الانتخابات، هي أنَّ حزب المحافظين بإمرة قيادته اليمينية الحالية تعرّض لضربة قاسية تجعل احتمالات استمرار هذه القيادة ضئيلة جداً في المستقبل المنظور. ولعلَّ ما يزيد مشكلة هذا الحزب تعقيداً أنَّ التغييرات المتلاحقة على قيادته، منذ إجراء استفتاء «بريكست» 2016، أحدثت نزفاً داخل الحزب استهلك من القادة بقدر ما استهلك من الصدقية والخيارات.

للعلم، قبل الإقدام على مغامرة «بريكست» كان (اللورد) ديفيد كاميرون – رئيس الوزراء وزعيم الحزب يومذاك، ووزير الخارجية حالياً – يتوهَّم أنَّه إذا أجرى استفتاء الخروج من أوروبا وربحه… «سيكسر» الجناح الانعزالي المتطرّف داخل الحزب ويتخلَّص من شعبويته، لا سيما أنَّه كان يتوقّع تصويت البريطانيين ضد الخروج. ومن هذا المنطلق أطلق تعهّده، الذي ما كان مضطراً أساساً لإطلاقه، بإجراء الاستفتاء… غير أنَّ ما حصل كان العكس. وهكذا، استقال كاميرون (حكم بين 2010 و2016)، وخلفته بديلته الانتقالية «المعتدلة» تيريزا ماي (2016 – 2019).

ولكن مع انكشاف تداعيات الخروج اقتصادياً وسياسياً، سرَّع غُلاة اليمين المُزايدة والمكابرة والهروب إلى الأمام… وسط تأزّم الوضع. وبالنتيجة، تعاقب على زعامة الحزب ورئاسة الحكومة خلال 4 سنوات فقط كل من ماي، فبوريس جونسون (2019 – 2022) ثم ليز تراس – لمدة شهر ونصف – ثم ريشي سوناك (2022 وحتى الآن). واليوم لا مؤشر حقيقياً إلى وجود قوة عاقلة معتدلة تستطيع كبح التطرّف والاستحواذ على قلب الساحة السياسية.

أما على الضفة العمالية، فإنَّ الرسالة التي حملتها نتائج الانتخابات المحلية – على إيجابيتها – لا تقل جدية ولا خطورة.

لقد حملت الرسالة تذكيراً جدياً بأنَّ على القيادة الحالية ألا تستخفّ بأصوات الاعتراض التي «شيطنها» كثيراً خلال الأشهر الأخيرة «اللوبي الإسرائيلي». وهذا «اللوبي» كان، بالمناسبة، القوة الأساسية الفاعلة وراء انتخاب كير ستارمر… خلفاً للزعيم السابق واليساري الراديكالي جيريمي كوربن.

لقد جاء موقف ستارمر، صاحب الارتباطات الوثيقة بكتلة «أصدقاء إسرائيل في حزب العمال»، من حرب تهجير غزة صادماً لقطاع واسع داخل الحزب، ليس فقط من الناخبين العرب والمسلمين، بل أيضاً من اليسار… بمختلف أطيافه.

إلا أنَّ الزعيم العمالي وجماعته ظلوا يراهنون على استحالة تحويل «المُعترضين» العماليين أصواتهم باتجاه سياسات المحافظين الداعمة بقوة أكبر لإسرائيل واليمين الليكودي. والأهم، أنَّهم استخفّوا بنسب مقاطعة الاقتراع المُحتملة، أو إمكانية اعتماد «المعترضين» التصويت تكتيكياً لصالح الديمقراطيين الأحرار و«الخُضر».

هذا، بالضبط ما حدث في مناطق عدة من إنجلترا، بما فيها الأحياء وضواحي المدن ذات الكثافة المسلمة، مثل ضواحي مدينة مانشستر – ومنها، مدينة أولدهام حيث خسر العمال السيطرة المطلقة على مجلسها بسبب تمرّد الناشطين ضد حرب غزة – وضواحي مدينة برمنغهام. وهنا، يجدر التذكير بأنَّ أضخم التجمّعات الحضرية سكانياً في عموم بريطانيا هي «لندن الكبرى»، و«برمنغهام الكبرى» (ويست ميلاند) بوسط غرب إنجلترا، و«مانشستر الكبرى» بشمال غربي إنجلترا.

والخلاصة، أنَّ الصوت المسلم أولاً، والعربي ثانياً، بات قادراً على إحداث فارق في المناطق الحضرية الكبرى بالنسبة لحزب العمال. وبالتالي، فإنَّ إهماله سينطوي على مجازفة حقيقية في الانتخابات العامة المقبلة.